لم ينتظر دونالد ترامب طويلًا ليترك بصمته على ولايته الرئاسية الثانية. فخلال ستة أشهر فقط، قلب الرئيس الأميركي موازين السياسة والاقتصاد والمؤسسات في البلاد رأسًا على عقب. هذا ما كشفته تحليلات نشرتها صحيفة فاينانشل تايمز، مسلّطة الضوء على حصيلة مدوّية وموثقة بالأرقام لنصف سنة أولى اتسمت بالعواصف، في ظل استقطاب سياسي حادّ واعتماد مكثّف على الأوامر التنفيذية. هجوم شامل: الدولة الفيدرالية في مرمى النيران منذ عودته إلى البيت الأبيض في 20 جانفي 2025، أطلق دونالد ترامب برنامجًا جذريًا تحت عنوان "تقليص الدولة"، وكلّف به كيانًا جديدًا أطلق عليه اسم وزارة الكفاءة الحكومية. وقد تولى إيلون ماسك رئاسة هذه الهيئة إلى غاية ماي، وتم خلالها إغلاق أو تفكيك عدة وكالات فيدرالية بارزة، من بينها إذاعة صوت أمريكا، وهيئة حماية المستهلك، بالإضافة إلى تخفيض كبير في عدد موظفي هيئة الغذاء والدواء (FDA) ومراكز السيطرة على الأمراض (CDC) والمعاهد الوطنية للصحة (NIH). ووفقًا لشركة Challenger Gray & Christmas، فقد تم تسريح 67 ألف موظف فيدرالي منذ جانفي، لتصبح الدولة أول مصدر لفقدان الوظائف في أمريكا لعام 2025. وقد صادقت محكمة مؤخرًا على قرار إلغاء 1.400 وظيفة داخل وزارة التعليم، رغم اعتراض القاضية سونيا سوتومايور التي اعتبرت ذلك "خطرًا على الدستور". الهجرة: قفزة غير مسبوقة في عدد الاعتقالات شهدت وتيرة الاعتقالات التي تقوم بها وكالة الهجرة والجمارك (ICE) ارتفاعًا حادًا، حيث وصلت إلى 1.400 حالة اعتقال يوميًا في جوان، مقابل 500 فقط في الفترة نفسها خلال ولاية جو بايدن، حسب معطيات جامعة كاليفورنيا – بيركلي. ورغم وعود ترامب الانتخابية، تشير الأرقام إلى أن نسبة كبيرة من المعتقلين لا تمتلك سجلات جنائية، مما أثار جدلًا واسعًا بشأن احترام الحقوق الأساسية وشرعية الإجراءات المعتمدة. الجمارك: حرب تجارية بوتيرة متسارعة اقتصاديًا، أعادت إدارة ترامب إحياء توجهها الحمائي بشكل مكثف، من خلال: * رفع المعدل الجمركي المتوسط من 2% إلى 8.8% خلال ستة أشهر فقط. * تحقيق عائدات جمركية بلغت في الربع الثاني 64 مليار دولار، من بينها 47 مليار دولار من الرسوم المفروضة على الصين (بمعدل 30%). وإذا تم تطبيق الإجراءات المعلنة حتى 13 جويلية، فسيبلغ المعدل الجمركي 20.6%، وهو مستوى غير مسبوق منذ سنة 1910، وفقًا لBudget Lab – Yale. وقد أطلق ترامب على هذه الحملة اسم "يوم التحرير"، إلا أن ذلك أدّى إلى انهيار تاريخي في البورصة خلال أفريل، أعقبه انتعاش وصفه محللون ب"المصطنع"، نتيجة تأخيرات متكررة في تنفيذ السياسات. وسرعان ما أطلق المستثمرون على هذه الظاهرة اختصارًا ساخرًا: TACO (ترامب يتراجع دائمًا – Trump Always Chickens Out). الدولار يفقد بريقه لم تقتصر التداعيات على البورصة، إذ سجّل الدولار الأميركي أسوأ أداء نصف سنوي له منذ عام 1973. وقد ساهمت الهجمات المتكررة على الاحتياطي الفيدرالي (Fed)، إلى جانب حالة اللايقين المؤسساتي، في زعزعة ثقة المستثمرين الدوليين، ما بات يهدد مكانة الدولار كعملة ملاذ آمن عالميًا. السلطة التنفيذية خارج السيطرة وقّع ترامب خلال أقل من ستة أشهر 170 أمرًا تنفيذيًا، أي بمعدل يقترب من أمر واحد يوميًا. وتشمل هذه القرارات: * سياسات تجارية * إصلاحات في مجال الهجرة * قضايا المواطنة * ضبط عمل القضاء * رقابة مشدّدة على مكاتب المحاماة وتعدّ هذه الوتيرة غير مسبوقة في تاريخ الرئاسة الأميركية الحديثة. وترى صحيفة فاينانشل تايمز أن هذا التوجه يمثل قطيعة واضحة مع مبدأ فصل السلطات، في ظل صمت متزايد من الحزب الجمهوري الذي بات يهيمن عليه أنصار ترامب. قنبلة صحية واجتماعية موقوتة بحسب مجلة The Lancet الطبية، فإن التخفيضات الكبيرة في ميزانيات الصحة والمساعدات الدولية قد تتسبب في وفاة 14 مليون شخص بحلول سنة 2030، من بينهم 4.5 ملايين طفل. ومن بين أكثر العبارات التي أثارت الجدل، تغريدة ساخرة نشرها إيلون ماسك في فيفري، قال فيها: "أمضينا نهاية الأسبوع ونحن نرمي الوكالة الأميركية للتنمية الدولية في آلة فرم الخشب." أبرز الأرقام من جانفي إلى جويلية 2025 * 170 أمرًا تنفيذيًا موقّعًا * 67.000 موظف فيدرالي تم تسريحهم * 1.400 اعتقال يومي في مجال الهجرة (جوان) * +47 مليار دولار من الرسوم الإضافية خلال 3 أشهر * 20.6%: معدل جمركي متوقّع، الأعلى منذ قرن * الدولار يسجّل أسوأ أداء له منذ 1973 * 14 مليون حالة وفاة محتملة نتيجة التخفيضات (بحلول 2030) تحليل يبدو أن الولاية الثانية لدونالد ترامب تسير نحو إعادة تشكيل جذرية ومثيرة للانقسام للنظام الأميركي، داخليًا وخارجيًا. فباسم "النجاعة"، يُطبّق ترامب رؤية ليبرالية متطرفة للدولة، تقضي بتقليص الخدمات العامة إلى الحد الأدنى، مع مركزة السلطة التنفيذية بشكل متزايد، في توجه يلامس حدود السلطوية الدستورية. ورغم ما قد يبدو من انتعاش اقتصادي سطحي في البداية، فإن الأسس التي يقوم عليها هذا النموذج ترتكز على هشاشة قانونية واجتماعية وجيوسياسية متزايدة. وقد لا يكون الفيصل في تقييم هذه المرحلة أرقام النمو ربع السنوية، بل ما سينتج عنها من توترات دستورية وصحية ودولية في قادم الأشهر. تعليقات