تكشف الأزمات الجيوسياسية المتتالية عن ضرورة ملحة لإعادة النظر في النموذج الطاقي التونسي الحالي. فالاعتماد المفرط على الواردات البترولية يعرض البلاد لتقلبات السوق العالمية ويثقل كاهل الميزانية العامة، مما يستدعي وضع رؤية استراتيجية متكاملة تهدف إلى تحقيق السيادة الطاقية الوطنية. إحياء الإنتاج المحلي للمحروقات تشير دراسة حديثة لمرصد تونس للاقتصاد إلى أن النهوض بالإنتاج الوطني من المحروقات يتطلب إبرام عقود جديدة للاستكشاف والاستغلال. هذا التوجه يستوجب مراجعة جذرية لمجلة المحروقات والعقود القائمة أو التي تشارف على الانتهاء، بهدف إعادة التفاوض حولها وفق استراتيجية وطنية تضع السيادة الطاقية في المقدمة. يتطلب هذا التحول تطوير القطاع الاستخراجي المحلي من خلال جلب استثمارات جديدة وتقنيات متطورة، مع ضمان حصة عادلة للدولة التونسية من العوائد المحققة. كما يجب تعزيز قدرات الشركات الوطنية العاملة في هذا المجال لتصبح شريكا فعالا في عمليات الاستكشاف والإنتاج. تعزيز دور الشركة التونسية للصناعات التكريرية باعتبار أن المنتجات البترولية تمثل العبء الأكبر في فاتورة الطاقة الوطنية، يؤكد المرصد على ضرورة إيلاء الشركة التونسية للصناعات التكريرية اهتماما أكبر وتخصيص موارد مالية وبشرية إضافية لها. هذا الاستثمار سيمكن من تعزيز إنتاج المحروقات وتقليص الواردات من المنتجات المكررة. تكشف الأرقام الرسمية عن واقع مقلق، حيث لم تنتج الشركة في عام 2024 سوى 25% من احتياجات البلاد من المنتجات البترولية، وتنخفض هذه النسبة إلى 11% فقط عند احتساب الإنتاج المخصص للسوق المحلية حصرا. كما شهدت نفس السنة توقفا كاملا لوحدة إنتاج البنزين الخالي من الرصاص، مما يبرز الحاجة الماسة لاستثمارات استراتيجية في قطاع التكرير وإدراجها ضمن مخطط التنمية 2026-2030. التحول نحو نموذج النقل المستدام تبرز أهمية بناء استراتيجية انتقالية نحو نظام نقل صديق للبيئة كوسيلة أساسية لتقليص استهلاك المنتجات البترولية. يشمل هذا التوجه تطوير وسائل النقل العمومي لتقليل الاعتماد على المركبات الشخصية، إلى جانب وضع توجهات استراتيجية واضحة حول المركبات ذات الدفع البديل التي تكون في متناول المواطنين مع توفير البنية التحتية اللازمة للشحن. يتطلب هذا التحول استثمارات ضخمة في شبكات النقل العام وتطوير تقنيات النقل الكهربائي والهجين. كما يستوجب وضع سياسات تحفيزية لتشجيع المواطنين على تبني وسائل النقل البديلة، بما في ذلك الدعم المالي والإعفاءات الضريبية. رهان المستقبل الطاقي تواجه تونس اليوم فرصة تاريخية لإعادة تشكيل خريطتها الطاقية بما يضمن استقلاليتها وأمنها الطاقي. النجاح في هذا المسعى يتطلب إرادة سياسية قوية وتضافر جهود جميع الأطراف المعنية، من القطاع العام والخاص والمجتمع المدني. إن التوجه نحو تنويع مصادر الطاقة وتقليص الاعتماد على الواردات البترولية ليس مجرد ضرورة اقتصادية، بل هو استثمار في مستقبل أجيال قادمة تستحق بيئة طاقية مستدامة ومستقلة. هذا المشروع الطموح يحتاج إلى رؤية طويلة المدى وتخطيط محكم لضمان تحقيق أهدافه المرجوة في الآجال المحددة.