اجتازت فرنسا عتبة رمزية وتاريخية: فللمرة الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تجاوز عدد الوفيات عدد الولادات. هذا ما تكشفه بيانات المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية (INSEE) والمعهد الوطني للدراسات الديموغرافية (INED) للفترة الممتدة من ماي 2024 إلى ماي 2025. فقد سُجّل نحو 651,200 وفاة مقابل 650,400 ولادة، ما يجعل الرصيد الطبيعي سالبًا ب800 شخص، وهو تحوّل حصل قبل عامين من التوقعات الرسمية. تراجع متسارع في معدلات الولادة لم يكن هذا التحوّل صدفة ، ففرنسا تشهد منذ سنوات تراجعًا ملحوظًا في معدلات الخصوبة. ففي عام 2024، سُجّلت 663,000 ولادة، أي بانخفاض قدره 2,2% مقارنة بعام 2023. واستمر مؤشر الخصوبة في الانخفاض ليبلغ 1.62 طفل لكل امرأة، وهو رقم بعيد عن عتبة تجديد الأجيال المقدّرة ب2.1. في المقابل، بقي عدد الوفيات مستقرًا، بل شهد ارتفاعًا طفيفًا بنسبة 1.1% خلال سنة 2024، مع تسجيل 646,000 حالة وفاة، ويُعزى ذلك إلى شيخوخة السكان الطبيعية، لاسيما مع بلوغ جيل الطفرة الديموغرافية المولود بين 1946 و1974 أعمارًا متقدمة. رصيد الهجرة يحافظ على النمو السكاني مع هذا العجز الطبيعي، أصبح نمو السكان في فرنسا معتمدًا بشكل كامل على الهجرة. ووفقًا لتقديرات المعهد الوطني للدراسات الديموغرافية، يمكن أن تواصل فرنسا نموها السكاني لتبلغ ذروتها بحوالي 70 مليون نسمة في أفق سنة 2040، قبل أن تبدأ مرحلة انخفاض تدريجي لتصل إلى 68 مليونًا بحلول عام 2070. غير أن هذه التوقعات تبقى رهينة بالتوجهات المستقبلية للسياسات المتعلقة بالهجرة، التي باتت تمثل الركيزة الأساسية للاستراتيجية السكانية. تضامن الأجيال أمام اختبار حاسم هذا التحوّل يطرح أسئلة اجتماعية واقتصادية جوهرية. فالمنظومة الفرنسية للحماية الاجتماعية تعتمد في جوهرها على التضامن بين الأجيال : إذ يموّل النشيطون معاشات المتقاعدين، ونفقات الصحة، ومساعدات غير النشيطين. لكن مع تقدم السكان في السن وتراجع عدد النشيطين، أصبح النظام برمّته مهددًا بالتداعي. أمام هذا الوضع، يطرح عدد من علماء الديموغرافيا ثلاث خيارات استراتيجية: * تأخير الوفاة (من خلال إطالة أمد الحياة الصحية) * تحفيز الولادات (عبر سياسة عائلية طموحة) * القبول بزيادة الهجرة لتحقيق توازن ديموغرافي فما هو موقف الساسة الفرنسيين؟ هنا يصبح النقاش أكثر حساسية، إذ إن الديموغرافيا في فرنسا تُعتبر موضوعًا إيديولوجيًا بامتياز، وغالبًا ما تكون محل توظيف سياسي. و أمام هذا المأزق الثلاثي، تتأرجح المواقف السياسية بين الإنكار، والحسابات الانتخابية، والشعارات حول "الهوية". فهل ستسعى فرنسا إلى تأخير موعد الوفاة؟ أم إلى إعادة إنعاش المواليد عبر منح مالية؟ أم ستتجرأ أخيرًا على اعتبار الهجرة حلاً وليس مشكلة؟ يعلّق بعض المحللين ساخرين: من المرجّح أن يختار السياسيون الفرنسيون إنشاء "لجنة خبراء" جديدة وكتيّب تربوي… بدلًا من مواجهة الحقيقة بجرأة. تعليقات