عقب الضربة الإسرائيلية في الدوحة مطلع سبتمبر 2025، دخلت المنطقة مرحلة من التصعيد الدبلوماسي عالي الكثافة. وكانت ذروتها اللقاء الذي جمع، في نيويورك بتاريخ 12 سبتمبر 2025، بين الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب ورئيس الوزراء القطري، الذي يشغل في الوقت نفسه حقيبة الخارجية. بعيدًا عن الطابع العاجل للأزمة، تكشف هذه المحطة عن مقومات هيكلية تجعل من الإمارة لاعبًا محوريًا في المشهد: وساطة إقليمية، شراكة أمنية مع الولاياتالمتحدة، ودور محوري في الطاقة على المستوى العالمي. صيغة لقاء تحمل دلالات عميقة بروتوكوليًا، ليس غريبًا أن تستقبل واشنطن رئيس الحكومة القطرية: ففي النظام الملكي القطري، يُجسّد الأمير التوجه الاستراتيجي، بينما يتولى رئيس الوزراء/وزير الخارجية إدارة المفاوضات العملية والتنسيق بين الأجهزة. وفي أوقات الأزمات، يُعتبر هذا المسؤول المخاطب الطبيعي للحفاظ على قنوات الوساطة، وتجنب التصعيد، وتنظيم مسار المباحثات المقبلة. رسائل بين السطور * إلى الدوحة: إقرار علني بالسيادة القطرية واعتراف بدور لا غنى عنه كوسيط في ملفات غزة والرهائن. * إلى القدس: تحذير مبطن من أن العمليات غير المنسقة قد تنسف جهود التهدئة وتزيد عزلة إسرائيل. * إلى عواصم الخليج: تأكيد على استمرارية الشراكة مع فاعل محوري في مجالي الأمن والطاقة. * إلى المغرب (الحليف المطبّع مع إسرائيل): إدانة صريحة للضربة واعتبارها انتهاكًا للسيادة القطرية، مع إعلان تضامن واضح مع الدوحة. * إلى الرأي العام الأميركي: إبراز إدارة للأزمة تحافظ على الدعم لإسرائيل، ولكن عبر التنسيق لا الانفراد. ركائز القوة القطرية 1) الوساطة: القدرة على مخاطبة الجميع حين ينقطع الحوار تعدّ الدوحة أحد الفاعلين القلائل القادرين على التحدث مع واشنطن، القاهرة، وإسرائيل... وكذلك مع تنظيمات كحركة حماس. ومع تكرار طلب وساطتها في ملف الرهائن أو الهدن الإنسانية، باتت هذه القدرة رأسمال نفوذ يصعب تعويضه. ورغم أن الضربة الإسرائيلية هزّت هذا الدور مؤقتًا، فإن استئناف الاتصالات رفيعة المستوى يؤكد غياب بديل حقيقي. 2) الأمن: تموضع أميركي فريد يستضيف قطر قاعدة العديد، إحدى الركائز الأساسية للقيادة الوسطى الأميركية (CENTCOM). ومنذ 2022، تحظى الإمارة بوضع "حليف رئيسي من خارج الناتو" (MNNA)، وهو تصنيف يكرّس الترابط الأمني ويتيح قنوات مباشرة مع أعلى المستويات السياسية والعسكرية الأميركية. وفي أوقات التوتر، يترجم هذا التموضع بخطوط حمراء أوضح وممرات أسرع لنزع التصعيد. 3) الطاقة: ورقة الغاز الطبيعي المسال (GNL) أطلق قطر برنامج توسعة لرفع طاقتها إلى 142 مليون طن سنويًا بحلول 2030. والعقود الطويلة المدى، مثل العقد الممتد 15 عامًا مع ألمانيا، تمنحها رافعة نفوذ تتجاوز حدود الشرق الأوسط. هذه المركزية الطاقية تزيد من القيمة الدبلوماسية للدوحة لدى القوى الغربية والآسيوية على حد سواء. دعم علني يعزز دورها في السنوات الأخيرة، وخصوصًا خلال الأيام الماضية، أعادت عدة عواصم تأكيد أهمية قطر: * الولاياتالمتحدة: تثمين لشريك "موثوق وقادر"، تأكيد وضع MNNA، تعاون وثيق عبر قاعدة العديد، ودعم واضح لدورها الوسيط في ملف غزة/الرهائن. * فرنسا والمملكة المتحدة: تضامن مع السيادة القطرية بعد الهجوم، وتعزيز التعاون في الوساطة والسلام والمصالحة. * ألمانيا/الاتحاد الأوروبي: شراكات هيكلية في الغاز المسال تجعل من قطر موردًا محوريًا. * الصين وروسيا: تأكيد دعم السيادة القطرية ورغبة في توسيع التعاون (طاقة، تمويل، استثمارات)، ما يعكس اعتراف جميع مراكز القوة بنفوذ الدوحة. البيئة الإقليمية والأثر العكسي على إسرائيل أرادت إسرائيل، عبر ضربتها في الدوحة، إيصال رسالة واضحة: قدرتها على الضرب البعيد والدقيق. داخليًا، غذّت العملية خطاب الصلابة والعزم، لطمأنة جمهور قلق وإبقاء الضغط على الخصوم. لكن تأثير العملية لا يُقاس عسكريًا فقط (وقد فشلت أساسًا لعدم إصابة المستهدفين)، بل يُقرأ أيضًا من خلال ردود الأفعال الدولية. وهنا، جاء الارتداد واضحًا: إدانات وانتقادات في منظمات متعددة الأطراف وعند حلفاء غربيين، خشية أن تعرقل الضربة مفاوضات الرهائن وتزيد تعقيد مساعي وقف إطلاق النار. حتى في واشنطن، أعاد غياب التنسيق إثارة توترات كامنة، ما أضعف صورة "الجبهة الموحدة". إقليميًا، استدعت عدة عواصم عربية، بينها الإمارات، ممثلين إسرائيليين ونددت بالانتهاك. كما أن دور الدوحة الوسيط، الحاسم لأي تقدم إنساني أو سياسي، عُلّق أو أُثقل بالقيود. ومع غياب هذا القناة، تضيق فرص التقدم في ملفات الرهائن والهدن. أما فعالية الضربة الاستراتيجية نفسها، فهي محل تشكيك: إذ تبقى مكاسبها العملياتية ضئيلة أمام تكلفتها الدبلوماسية. وبمعنى آخر، عززت صورة إسرائيل كقوة ردع، لكنها أضعفت قدرتها على بناء التحالفات وحافظت قطر على موقعها الدبلوماسي. النتيجة المؤقتة: الردع العسكري الإسرائيلي قائم، لكن الثمن باهظ على مستوى النفوذ والتحالفات. في المقابل، أكدت سرعة التحركات الدولية للحفاظ على قناة الدوحة مركزية دورها الدبلوماسي. ما هو مطروح الآن قبل استعراض المسارات المقبلة، يجب التذكير بالثابت الأساس: كل شيء سيتوقف على قدرة الأطراف على إعادة تفعيل وساطة موثوقة دون خسارة ماء الوجه، وتفادي أزمات علنية جديدة بين الحلفاء. وفي هذا السياق، ستتحدد أربعة مسارات رئيسية: 1. إعادة تنشيط القناة القطرية: استئناف متواصل لمباحثات الرهائن والهدنة، لغياب بديل. 2. التنسيق السياسي: تحسين التناغم بين واشنطن–الدوحة–القدس لتفادي أزمات جديدة. أو تحرك الدول العربية لمعاقبة إسرائيل بخطوات منسقة. 3. عامل الطاقة: تأثير عقود الغاز القطري على المواقف الأوروبية خلال الشتاء وما بعده، وما قد ينتج عنها من دفع دبلوماسي. 4. دور القوى الصاعدة: استمرار الصين والهند في دعم السيادة القطرية وتوسيع انخراطهما الاقتصادي، ما يعزز مكانة الدوحة كمنصة موثوقة. تعليقات