كشفت الانتخابات البرلمانية الفرنسية التي أعلن عن نتائجها في نهاية الاسبوع المنقضي، عن اتجاهات في السياسة والمجتمع، جاءت مخالفة تماما لعديد الاستنتاجات التي انتهى إليها أو توقعها بعض المراقبين.. لقد ساد الاعتقاد في بعض الاوساط المتابعة لمجريات السياسة الفرنسية، أن اليسار الفرنسي سيربح «معركة التشريعية»، ليس فقط خسر مرتين متتاليتين (في الاستحقاقات الرئاسية والبرلمانية)، بل لأن الأجندا التي أفصح عنها خلال الانتخابات الرئاسية الماضية، عكست خطابا مجتمعيا أقرب إلى يسار الوسط منه إلى اليسار الاشتراكي المتعارف عليه، وهو ما جعل هذه الأجندا تحظى بثقة 47% من الفرنسيين... غير أن الانتخابات التشريعية، أزاحت اليسار الفرنسي من المقدمة، في ضوء الفوز المدوّي لليمين بزعامة ساركوزي، الذي بات يتوفر على أغلبية مريحة في الجمعية الوطنية الفرنسية، تتيح له «تمرير» القوانين التي يرغب فيها، والحصول على تصديق عليها من دون أي عناء.. غير أن نتائج التشريعية الفرنسية، كشفت من ناحية أخرى، بأن الشعب الفرنسي، اختار «التوافق السياسي» بدلا من «سياسة التعايش» بين رئاسة يمينية وحكومة يسارية، كان اكتوى بنارها قبل أكثر من عشر سنوات على عهد رئاسة شيراك للجمهورية، ورئاسة جوسبان للوزراء.. إذ لا يبدو أن الناخب الفرنسي، قد نسي تلك التجربة المرّة التي مرت بها فرنسا، خصوصا على صعيد مواقفها الديبلوماسية وعلاقاتها الخارجية، وبدرجة أقل، لكنها لا تخلو من أهمية لافتة، على مستوى القضايا الداخلية.. حيث بدت فرنسا في تلك الفترة مشتتة بين رؤيتين، وموزعة بين مقاربتين متباعدتين أحيانا، ومتناقضتين أحيانا أخرى... لذلك كانت الرسالة الأساسية للناخب الفرنسي من خلال نتائج «التشريعية»، هي استبعاد أي تناقض أو صراع بين القصرين: قصر الاليزيه وقصر ماتينيون، على اعتبار أن المهم، ليس الصراع على الوعود والتعهدات، وإنما كيفية تنفيذها وتطبيق التوجهات التي أعلن عنها المرشحون، وهو ما لن يتوفر بوجود رأسين على قمة القيادة السياسية الفرنسية.. على أن الانتخابات البرلمانية الفرنسية الاخيرة، لم تكتف بهذه الرسالة - على أهميتها السياسية والتنظيمية في تصريف شؤون البلاد - بل إن الاستحقاقات التشريعية هذه، كرست جملة من المعاني أهمها: * أن الفرنسيين ليسوا مقسمين بين جزء يميني وجزء يساري، وبالتالي فليس من الضروري أن تعيش فرنسا (كدولة وكمجتمع) على خلفية الصراع بين هذا وذاك.. ومعنى ذلك أن الانتخابات ليست فرزا إيديولوجيا بالضرورة، بقدر ماهي اختيارات مرحلة وفقا لمضمون خطاب وأجندا وأفكار وليس بطبيعة هذا اللون أو غيره.. * أن الصعود المفاجىء لليسار الفرنسي في الدورة الثانية للانتخابات التشريعية، يعكس خشية الفرنسيين من تقديم «صك على بياض» لليمين بشكل يساهم في هيمنة مطلقة له على الساحة الفرنسية، وهو ما لم تتعود عليه فرنسا التي كانت تقتات دوما من هذا التجاذب بين الطرفين بما جعلها ساحة منتجة للأفكار، وليست مجرد مشهد يكرر نفسه بين انتخابات وأخرى. * إن تراجع اليمين في ظرف أسبوع فقط (بين نتائج الدورتين)، يتضمن رسالة من دون شفرة لتيار اليمين، مفادها، أن الفوز بالرئاسيات، ليس ضوء أخضر له لكي ينفرد بالقرار الفرنسي أو بالمشهد السياسي والبرلماني، وأن الفرنسيين إذ انتخبوا قيادة اليمين ورموزها، فليس معنى ذلك أنهم أقصوا اليسار أو أرادوا إبعاده نهائيا عن حلبة الصراع السياسي في البلاد.. * صعود مرشحي فرانسوا بيرو، يؤشر لحرص الفرنسيين كسر الاستقطاب الثنائي بين اليسار واليمين، المستمر منذ فترة طويلة في السياسة الفرنسية. لكن فرانسوا بيرو، لا يمثل فقط وسط اليمين الفرنسي، بقدر ما يوشر ل«الطريق الثالث» في السياسة الفرنسية، وهو ما جعل عديد المراقبين يرشحونه للعب دور شديد الأهمية خلال الفترة القادمة، بل إن وصول مرشحي بيرو إلى الجمعية الوطنية الفرنسية، يحمل دلالة واضحة، بأن «خيارا» ثالثا جديدا بدأ يشق طريقه وسط المشهد السياسي الفرنسي، ربما كان «بديلا» للجبهة الوطنية بزعامة جون ماري لوبان الذي سقط في امتحان الرئاسيات بشكل لافت ومثير.. ليس من السهل على أي متابع للشأن السياسي الفرنسي، أن يجزم بنجاح اليمين في الحكم خلال السنوات السبع القادمة، على أهمية ذكاء قيادته بزعامة ساركوزي، وأسلوبه الجديد في الحكم الذي بات أكثر الموضوعات استهلاكا في الإعلام الفرنسي، لكن الذي ينبغي الانتباه إليه، هو هذا اليسار الذي على الرغم من هزائمه المتكررة منذ نحو عقدين من الزمن، إلا أنه ما انفك يطوّر خطابه، ويعلن مقاربات فكرية وسياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية، مثيرة للنقاش والجدل، داخل فرنسا وخارجها، غير عابىء ببعض التحاليل التي طالما بشرت بنهايته واندحاره إلى ما وراء المشهد السياسي الفرنسي.. لقد أكد اليسار الفرنسي، أنه يتجدد ويتطور بل كشفت مقارباته خلال الاستحقاقات الانتخابية الاخيرة، أنه قام بمراجعات عديدة، لفكره ورؤاه وتصوراته، وهو ما يعني أنه بدأ بتدشين مرحلة جديدة في تاريخه، من المؤمل أن تستفيد منها تيارات اليسار العربي، التي ما تزال تعيد إنتاج نفس خطاب الستينيات والسبعينات، من دون أن تلتفت إلى تغيرات الواقع والبشر والافكار الحاصلة على امتداد العقود الاربعة الماضية على الاقل... لقد نجح اليسار الفرنسي في أن يبقى رقما في معادلة المشهد السياسي الفرنسي، وهذا بحد ذاته مكسب مهم ليس في السياق الفرنسي فحسب، بل في السياق الأوروبي أيضا، حيث يمثل اليسار ركنا مهما من البيت السياسي الأوروبي...