بمجرد انهيار الاتحاد السوفياتي في أوائل تسعينيات القرن الماضي كان الكثير من المشتغلين في حقل العلاقات الدولية يتنبؤون بأن تكون العشرية الأخيرة للقرن العشرين عشرية القوميات خصوصا في أوروبا الشرقية حيث عمدت الأنظمة الشيوعية إلى محاولة كبت المشاعر والانتماءات لمختلف القوميات والعرقيات من منطلق التشبث بمفهوم أوسع وهو الأممية. وبمحاولة الصرب إحياء فكرة صربيا الكبرى على أنقاض يوغسلافيا السابقة بالتسبب في حرب امتدت فصولها من 1991 بما يعرف بحرب البوسنة والهرسك إلى عام 1999 تاريخ انتهاء حرب كوسوفو، اتضح المنحى نحو استغلال المشاعر القومية من أجل إقامة الدولة الأمة ذات العرقية الواحدة والدين الواحد، ولئن انتهت تجربة الزعيم الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش في محكمة الجنايات بلاهاي والسجن فإن الحرب انتهت بدولة صربية لم تتمكن من جمع شمل كل المناطق ذات الأغلبية الصربية في يوغسلافيا السابقة. عودة القوميات ولم تخفت المطالب القومية في عدة مناطق من العالم والدعوات إلى الانفصال-الاستقلال خلال العشرية الأولى من القرن العشرين رغم ما شهدته الدول من "خسارة" جوانب سيادية بفعل العولمة، ليشهد عام 2011 انفصال جنوب السودان عن شماله في خضم انغماس العالم العربي في ثورات الربيع العربي وذلك بعد استفتاء شارك فيه أبناء الجنوب وانتهي بتقسيم السودان وارتفاع عدد الدول الإفريقية إلى 58 دولة. ومن خلال تجربة جنوب السودان وبقطع النظر عن ملابسات وجذور في فكرة الاستقلال بدا واضحا أن الانفصال لم يعد يتحقق من خلال قوة السلاح بل تحول الأمر إلى عملية كسب الأنصار داخليا والتأييد الخارجي عبر فكرة تنظيم استفتاء شعبي على أساس حق تقرير المصير واستعادة الحقوق القومية وهو ما حصل في العراق حيث تداعيات الاستفتاء حول استقلال إقليم كردستان تهدد بتفاعلات على ضوء مواقف "مبدئية" للسلطة المركزية في بغداد أو لتركيا وإيران هذا دون اعتبار المكاسب الميدانية للأكراد في سوريا وصمت أكراد أرمينيا. وبينما كان إقليم كردستان العراقي ينظم الاستفتاء كانت السلطة المركزية في اسبانيا تواجه سيناريو مماثلا يأمل من خلاله انفصاليو إقليم كاتالونيا الاستقلال عن اسبانيا وبالتالي تتجه الأنظار اليوم إلى اسبانيا حيث ترفض السلطات الاستفتاء فيما يصر الانفصاليون على تنظيمه وهو ما يشكل سابقة في جنوب أوروبا بعد فشل اسكتلندا في الانفصال عن بريطانيا عام 2014 في وقت يحاول فيه جانب من الاسكتلنديين تنظيم استفتاء ثان. من إعادة التوحيد إلى مطالب الانفصال ولو بحثنا عن النزعات الانفصالية في المنطقة العربية أو في أوروبا نلاحظ وجود مسار سابق مغاير توصل في المنطقة العربية إلى توحيد شطري اليمن عام 1990 وفي أوروبا توحيد ألمانيا وتراجع النزعة الانفصالية في بعض بلدان أوروبا والتي كان غالبها يعتمد الكفاح المسلح سواء في إيرلندا الشمالية وإقليم الباسك الإسباني وحركة تحرير كورسيكا بفرنسا وتلاشي الفكر الانفصالي في مقاطعة بريطانيا في الشمال الغربي الفرنسي. هكذا تبدو وجهة الحركات الانفصالية في أوروبا نحو تحقيق أهدافها القومية مركزة على استغلال حق الاستفتاء وهو نفس ما قام به أكراد العراق رغم أن التجربة الكردية كانت مسبوقة بكفاح مسلح بينما فضلت مقاطعة كاتالونيا اللجوء إلى الاستفتاء، وبات واضحا أن مطلب الانفصال والاستقلال مرفوض حتى وإن لجأ أصحابها إلى الطرق والوسائل المشروعة. وهنا التساؤل يطرح نفسه ما الذي يمنع شعوبا أو قوميات من نيل حقوقها وإقامة دولها المستقلة على أرضها في إطار حق تقرير المصير الذي ينص عليه ميثاق الأممالمتحدة وهو ما ينطبق على الشعب الفلسطيني وعلى غيره من الشعوب. تجاذب المصالح بين المركزي والدولي الاستنتاج الذي يمكن التوصل إليه من التجربتين الكردية والكاتالونية أنه في سياق خارج عن الاحتلال الاستعمار المباشرين ترفض أية دولة كل محاولة انفصالية وهو ما حصل في اسبانيا ثم إيطاليا حيث رابطة الشمال تسعى إلى الانفصال وفي فرنساوبريطانيا وتتمسك بتشريعاتها ذات العلاقة باللامركزية لتمكين المناطق والأقاليم من صلاحيات أكبر. وحتى في العراق فإن الحكم الذاتي في إقليم كردستان اعتبره الأكراد لا يحقق طموحاتهم في تحقيق حلم إقامة الدولة القومية وهو ما خلق وضعا متوترا بين بغداد وإربيل في ظل رفض دولي شكلي في جانب منه عند الأخذ بعنين الاعتبار الرفض التركي والإيراني لكن زاوية النظر تختلف عند إسرائيل التي يهمها تقسيم العراق وإقامة الدولة الكردية مثلما أيدت من قبل جنوب السودان إذ ربطت علاقات اقتصادية وثيقة مع الإقليم الكردي منذ سنوات عديدة أما الولاياتالمتحدة فإنها تنتظر نهاية الحرب في سوريا ومحاولة تعديل الحدود المتفق عليها في اتفاقية سيكس-بيكو. وبالنظر إلى التاريخ قد يحقق إقليم كاتالونيا يوما حلمه في الانفصال ويبقى وجود الدولة الكردية الكبرى أو الدويلة الكردية محل تجاذب، فقد كان الأكراد دوما شعبا مخدوعا من قبل القوى الكبرى والإقليمية وهو ما حال دون تحقيق حلمه. فبعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى فكرت الأطراف المنتصرة في تمكين الأكراد من دولة وذلك من خلال معاهدة "سيفر" ( Sèvres) المبرمة عام 1920 لكن معاهدة لوزان (1923) وضعت حدودا واضحة لتركيا لتضم بين 15 و20 في المائة من الأكراد. وفي الأثناء تمكن محمد الحفيد من إقامة مملكة كردية في شمال العراق من 1922 إلى 1924 ولم تحصل على أي اعتراف دولي ويبدو أن الدور التركي في المسألة الكردية يعمل في اتجاه محو ما يعتبر كردستان الكبرى أو التاريخية أي المناطق التي يتواجد بها الأكراد في تركياوالعراقوسوريا وإيران وأرمينيا حيث تحاول الحكومة التركية تمكين الأكراد من بعض الحقوق الثقافية وتشديد الخناق على الأحزاب الكردية. ولا يخفى أن منطقة شمال العراق بثرواتها النفطية كانت محل تنازع بين المركز والإقليم إضافة إلى الدور التركي الرافض لوجود دولة كردية مستقلة على حدوده، وبالتالي أصبح الموقع الاستراتيجي للإقليم وموارده محددين لمستقبل الدولة الكردية وهو ما ستتفاعل معه القوى الإقليمية والدولية تدريجيا. وفي حالة كاتالونيا يمثل الإقليم ثقلا اقتصاديا في اسبانيا فاقتصاده يمثل 19 في المائة من الاقتصاد الاسباني كما أن المملكة الاسبانية لا يمكنها أن تفرط في إي شبر من أراضيها وبالتالي فإن العديد من العوامل قد تتفاعل لتجعل عملية إجراء الاستفتاء مفتوحة على شتى الاحتمالات وهو ما ينطبق في الآن نفسه على استفتاء كردستان وتبعاته إقليميا ودوليا.