لم يلجأ المخرج والمنتج سامي منتصر للتعقيدات أو المغالاة في مشروعه المسرحي الجديد لمدك ، الذي قدمه مؤخرا للجمهور التونسي، بل صاغ حوارا لعمل كوميدي هادف وأتقن هندسة تفاصيله الفنية في مستوى الإخراج بما يؤكد أنه قد خبر مقاييس العروض المسرحية الناجحة جماهيريا وفنيا خاصة منها العروض الكوميدية خارج سياق الوان ما ن شو لاسيما بعد تجربة طويلة في تنظيم مهرجان الضحك وغيرها من التظاهرات والعروض المسرحية التي أخرجها وأنتجها وأخرها عشرة سنين عرس التي جسدها على الركح محمد الداهش ومنال عبد القوي. فرغم أن موعد انطلاق المسرحية كان محددا على الساعة الثامنة والنصف ليلا، إلا أن أعدادا كبيرة من الجماهير كانت متجمعة أمام قاعة الزفير مبكرا وبدت متشوقة لمشاهدة العرض، مما أدخل حركية على المكان خاصة أمام هدوء الحركة وخلو أغلب أنهج وشوارع مدينة المرسى في ذلك التوقيت من ليالي الخريف الباردة. هذا تقريبا ما أوحى به عرض مسرحية لمدك بقاعة الزفير بالضاحية الشمالية للعاصمة بالمرسى مساء أول أمس وسط حضور جماهيري كبير وبشكل ملفت وهو العرض الثالث للمسرحية بعد العرض الأول الذي احتضنه المسرح البلدي في منتصف الشهر الجاري. لكن وبدخول القاعة وإعلان بداية المسرحية، عم الهدوء على الكراسي المكتظة في الطابقين ولم يلجأ أبطال الركح إلى جس نبض الحضور أو وقت طويل لتهيئتهم للعرض بل كانت طريقة إخراج العمل وبنائه الكوميدي بهندسة سامي منتصر ومساعدة سناء بن طالب، محكمة على نحو جعل جميع الحاضرين ينخرطون في عوالم المسرحية. وتجدر الإشارة إلى أن مسرحية لمدك مقتبسة عن فيلم فرنسي شهير عنوانه Diner de cons أنتج سنة 1998 وحظي بمتابعة وجوائز عالمية وهو بدوره كان قد قدم سنة 1993 وبنفس العنوان كعمل مسرحي في نفس البلد. وقد عمد سامي منتصر إلى تونسة هذا العمل الكوميدي مع المحافظة على الروح الأصلية للفيلم، ليقدمه في مسرحية تدور أحداثها حول لعبة طريفة حاكتها مجموعة من الأصدقاء، وتتمثل في تنظيم عشاء كل يوم أربعاء ويتكفل كل واحد منهم بجلب ضيف أحمق ثم يتركون الحمقى يتنافسون فيما بينهم ليتسنى لهم السخرية والضحك واختيار أفضل الحمقى لتتويجه بطلا للسهرة بجائزة من نفس الجنس. إلا أن موعد الليلة سيكون مغايرا تماما وسيشهد أحداثا غير متوقعة للبطل الرئيسي للمسرحية الياس عبيد الذي يجسده زهير الرايس وذلك بعد أن تعرض إلى توعك صحي لم يستطع بسببه الخروج من البيت للاستمتاع بسهرته يبقى بالمنزل وينزل أحد الحمقى أنور الذي يجسده توفيق البحري ضيفا عليه بعد أن غادرت زوجته سارة ، في دور للممثلة إباء حلمي، المنزل غاضبة. ويشارك في هذا العمل إضافة إلى الممثلين المذكورين سابقا كل من صلاح مصدق في دور المراقب وأميمة المحرزي في دور عشيقته السابقة مريم وحمدي حدة في دور سامي صحيح ومحمد علي بالحارث في دور الطبيب. واعتمد في الديكور على أريكة وطاولة صغيرة في زاوية من الركح وجدران وأبواب توحي للمشاهد بأنه في حضرة سهرة داخل منزل وليس في فضاء خارجي وقد كانت المؤثرات الصوتية والإضاءة موظفة بإحكام لخدمة هذا المعطى. نسق كوميدي متصاعد منذ المشهد الأول تستدعي المسرحية الجمهور الحاضر للانخراط في عالم كوميدي من خلال المواقف الساخرة والمشاهد المضحكة باعتماد حوار مستمد من واقع التونسي الضامر ومواقف الشخصية أنور الغبية الحمقاء ولكن دون السقوط في السخرية الهابطة أو السوقية . لتقدم المسرحية هذا الأحمق التونسي في صورة محترمة وشكل مغاير لما هو متعامل به في مثل هذه الحالات فلم يكن محل سخرية وازدراء واستهجان بل كان شريكا فاعلا في حياة الفرد والمجتمع وتواقا للابتكار ومطيعا وخدوما ورافضا ومتمردا.. وهي حالات أشبه بمقاربات في علم النفس والاجتماع تفسر شخصية الفرد في المجتمع التونسي اليوم في ظل تراكم الضغوط وتشابك الأهداف والمصالح وتضارب القيم واختلاط المفاهيم وتباعد الأهداف والرؤى. فالبعض يعمد إلى استغلال نقيصة الآخر للتسلية بغبائه على وقع عشاء فاخر والبعض الاخر يغدر بصديقه ليفتك منه زوجته مثلما فعل الياس بعد ان اختطف سارة من سامي لكن سامي لم يستغل الفرصة بعد أن قررت رفيقة دربه السابقة هجران منزل زوجها بعد سنتين من الزواج ليستعيدها مثلما ذهب في ظن زوجها بل ساعده على استرجاعها. وهي تقريبا نفس الوضعية التي عاشها أنور بعد أن تركته زوجته يلاحق أحلامه وطموحاته التي بناها من أعواد الثقاب وهربت مع أحد أصدائه لتتخلل هذه الخطوات مواقف ومشاهد جد مضحكة لأنور . فلم يتوان في كل مشهد من المسرحية عن تجسيد موقف صادم بالنسبة لشركائه في العمل على الركح ولكنه مضحك ومسل للمتفرج أيضا على امتداد ردهات العرض الذي قاربت مدته الساعتين. وقد أتقن توفيق البحري أداء دوره سواء من خلال التزامه وانسجامه في الحركة والحوار مع بقية الشخصيات وإتقانه لدوره كمحرك و دينامو العالم المسرحي أو من في مستوى الشكل والحركات والتنقل على الركح بطريقة وجدت التفاعل مع الجماهير الحاضرة. فكان البناء الكوميدي متواترا وبنسق متصاعد وذلك يحسب للمخرج الذي لم يترك المتفرج يشعر بالفراغ أو أن يسقط العمل في فترات مملة. فبعد أن وضع الياس في مواقف صعبة مع زوجته وكشف مخططه الجهنمي مع صديقه السابق سامي وأجبره على قبول أمر واقع آخر بأن أعاد إلى دائرة حياته عشيقته مريم ، طالت مخلفات حمقه وغبائه أحد من لجأ لهم الياس لإنقاذ زوجته بأن فضح أمر خيانة زوجته له مع أحد الفاسدين. وهو تقريبا نفس التفاعل حظيت به أغلب شخصيات المسرحية بما يؤكد أن الكاستينغ كان من العوامل الناجحة بالنسبة لسامي المنتصر وسناء بن طالب، باعتبار أن بعض الأسماء الأخرى كانت مرشحة لهذا العمل على غرار هشام رستم الذي كلف سابقا بإخراج العمل ورشح له بدوره أسماء أخرى منها سناء الزين وكان سيجسد دور إلياس. فحمدي حدة وصلاح مصدق وأميمة المحرزي نجحوا بدورهم في شد الجمهور في المشاهد التي شاركوا فيها وبدوا أكثر تجاوبا مع فريق العمل بما من شانه أن يساهم في تطويره بتقدم العروض خاصة أن مخرجه أكد أنه بصدد تطوير هذا العمل ومتابعة الجزئيات والتفاصيل الصغيرة التي يعتبرها أساسية في البناء الكوميدي والدرامي بشكل عام سواء كان ذلك في مستوى الحركة والتنقل على الركح أو في النص والإضاءة والديكور. لأنه يروم أن يجعل هذا العرض قبلة أكبر نسبة من المشاهدين في تونس وخارجها. فكان اختيار المخرج وكاتب النص محورة العمل تحت عنواني الفساد والخيانة وتركيز الكاميرا على الغبي والأحمق والأبله والمغفل ليقدمه من خلال أفظع مخلفاته على الآخر الذكي والفطن و السويّ بما يجعل حياة الصنف الثاني أشبه بلعبة في يد الصنف الأول من الناس وهي معادلة وطرح نقدي للوقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في تونس اليوم. وهو المنحى النقدي البناء والهادف الذي اعتمده مهندس مسرحية لمدك لكن بأسلوب فني متميز بعيدا عن الابتذال والسوقية والسطحية.