سمر الوجوه، بيض القلوب أنقياء السرائر، أولئك هم أهل السودان كما يصفون أنفسهم، خليط من الزنج والعروبة، مزيج من الأعراق والقبائل التي يصل عددها إلى حوالي 200 قبيلة في بلد قارة تراوح الطبيعة فيه بين الجبال الشاهقة والظلال المورفة وبين الصحاري القاحلة والبوادي الموحشة، يلتقي فيه النيلان، الأبيض والأزرق وتلتقي فيه الروافد الثقافية العربية والإفريقية فتجعل من الثقافة نبضا دافقا ومن الفن نبعا ساريا. أبناء الحضارة المروية بأهراماتها الشامخة التي سبقت زمنيا الأهرامات المصرية جاؤوا إلى تونس وشعارهم « الثقافة جسر للتواصل بين الشعوب» وهو شعار الأسبوع الثقافي الذي نظمته وزارة الشؤون الثقافية بالتعاون مع وزارة الثقافة السودانية وسفارة السودان بتونس من 13 إلى 17 نوفمبر الجاري، جاؤوا إلى تونس حاملين معهم غيضا من فيض الثقافة السودانية الغنية. لأول مرة في تونس: أيام للثقافة السودانية والأسبوع الثقافي هو مبادرة أولى تهدف إلى إقامة جسور للتواصل بين الثقافتين السودانية والتونسية وقد احتضنت فعالياته كل من دار الثقافة ابن رشيق بالعاصمة واتحاد إذاعات الدول العربية فيما كان الاختتام بدار الثقافة باب بحر بصفاقس. عرض الافتتاح، يوم 13 نوفمبر أقيم بدار الثقافة ابن رشيق وحضره وزيرا الثقافة التونسي والسوداني محمد زين العابدين والطيب حسن بدوي وأعضاء البعثة الدبلوماسية السودانية على رأسهم السفير عبيد أحمد. كما احتضنت الدار أيضا عرضين موسيقيين، الأول لمجموعة فلكلورية تشتغل على تطوير الموسيقى المحلية يقودها الباحث والدكتور عاصم القرشي والثاني للفنان خالد محجوب الذي اشتهر في السودان بالمديح وبأغانيه العذبة ذات الكلمات الراقية التي يحفظها السودانيون عن ظهر قلب. القاعة ذاتها شهدت عرضا سينمائيا لفيلم وثائقي عن السودان يحمل عنوان « أرض السمر» كما شهدت ليلة شعرية أحيتها كل من الشاعرة روضة الحاج الملقبة بأميرة الشاعرات العربيات والتي نظمت بالمناسبة قصيدة شعرية مهداة إلى تونس ومستلهمة من قصيدة نزار قباني الشهيرة التي يقول مطلعها « يا تونس الخضراء جئتك عاشقا» وهي قصيدة نبضت ابداعا وعروبة وقد صفق لها الحضور طويلا وشاركتها في إحياء الليلة الشعرية الشاعرة منى الحاج. وتم بالمناسبة تقديم محاضرتين اثنتين، الأولى عن تاريخ السودان القديم ومعالمه السياسية والثقافية بامضاء الدكتور عبد القادر محمود والثانية عن وجه التشابه بين التجربة الشعرية للشاعر السوداني التيجاني يوسف بشير وشاعر الخضراء أبو القاسم الشابي وقدمها الأستاذ مجذوب عيدروس. السودانيون: فرسان للكلمة وعشاق لأبي القاسم الشابي في زمن الغربة والارتحال/تأخذني منك وتعدو الظلال/وأنت عشقي حيث لا عشق سواك يا سودان/ هي أبيات للشاعر السوداني الملقب بشاعر إفريقيا « محمد مفتاح الفيتوري، والشعر في السودان نبض للحياة اليومية وكلام في الكلم والعروبة والسلام والجمال. وفي هذا البلد تدرس أشعار أبي القاسم الشابي ضمن البرامج التربوية وتغنى وتلحن ويحفظها السودانيون كما يحفظون شعر الفيتوري والتيجاني يوسف بشير وهذا الأخير عاصر تقريبا الشابي وتوفي في عمر يناهز الخمسة وعشرين سنة وأوجه الشبه بينه وبين تجربة الشابي الرومنطيقية والصوفية متعددة حتى أن التوجاني كتب مرثية يرثي فيها الشابي عند وفاته من فرط اعجابه به وحبه له لكن هذه الوثيقة قد فقدت مع الأسف. الموسيقى وسيلة للتواصل الاجتماعي وقمة العالمية في الحفاظ على الخصوصية الموسيقى في السودان موسيقات فلكل قبيلة إيقاعاتها ورقصاتها ولهجاتها وحتي لغتها فمن الخرطوم إلى كردوفان إلى جبال النوبة تتنوع الموسيقى وتختلف فتتأثر بالتضاريس والمتغيرات الجغرافية من الغابة والجبل حيث الإيقاعات السريعة إلى الصحراء حيث الايقاعات البطيئة إلى النيل حيث موسيقى الحنين كما تتأثر بجدلية الزنج والعروبة فموسيقى الزنج في الشمال تختلف عن موسيقى القبائل العربية وهي موسيقى مقامية من أبرز مقاماتها البياتي والناهوند. وقد زاوجت المجموعة الموسيقية التي أحيت حفلين اثنين في ابن رشيق بالعاصمة وفي صفاقس بين الآلات التقليدية كالرباب والوازا وبعض الآلات الغربية محافظة في ذلك على الأصالة في الغناء والآداء ومجددة على مستوى الموسيقى. وقد ألهب قائدها الباحث والدكتور عاصم القرشي والفنان الأجواء بآدائه الرائع و» الكاريزما» التي يتمتع بها فكان راقصا عازفا مغنيا في آن وفاجأ الجمهور التونسي بأغنية « الممبو السوداني» للمرحوم سيد خليفة، أغنية تفاعل معها الحاضرون كثيرا. « أيام السودان الثقافية بتونس»، جسر أول يربط بين ثقافتين وحبل للوصال ينسج بين شعبين يجمعهما الكثير رغم بعد المسافات وفرصة جديدة للموسيقيين السودانيين والتونسيين على السواء للانفتاح على ثقافة مختلفة ولإيجاد سوق جديدة لتقديم عروضهم وأعمالهم الفنية.