"دار جواد" كانت رد فعل استباقي على خروج المرأة التونسية للدراسة ومقاومة المستعمر وهو ما غفلت عنه سلمى بكار *تناولت فترة استشهدت خلالها حاملات السلاح وسجنت ونفيت قائدات النضال السياسي دون أن تشير اليهن في النص تونس – الصباح لمن وجهت سلمى بكار فيلمها "الجايدة" ولماذا اختارت هذا الموضوع بالذات، وهي تعرف ان النساء في تونس تجاوزن هذه المرحلة، وان علمهن واستقلاليتهن الاقتصادية وقدرتهن على اعالة انفسهن وأطفالهن واستفادتهن من برامج التثقيف والتوعية يجعلهن في منأى عن "الجايدة" وسجنها وعقليتها؟ هل ارادت التذكير بمعاناة المرأة التونسية قبل مجلة الاحوال الشخصية بغاية التخويف والتحذير؟ وهل اثر عليها حماسها وخوفها على مكتسبات التونسية بعد 11 جانفي 2011 فغمطت المرأة التونسية حقها وغبنت حقيقتها وغفلت عن ذكرنضالها في تلك المرحلة الدقيقة في تاريخ تونس أي عشية الاستقلال الداخلي (أحداث الفيلم الذي دام ساعتان إلا الربع تمتد من 1954 الى 1 جوان 1955 يوم عودة الزعيم الحبيب بورقيبة) . لمن هذا الفيلم اليوم اذا لم نذكر بنضال سيدات تونس وبعد ان خرجت التونسيات عن سيطرة المذاهب ( المالكي والحنفي ) التي حكم من خلالها الاستعمار الفرنسي المجتمع التونسي، وحارب بها رجال الدين وبعض الفقهاء كتاب الطاهر الحداد "امراتنا في الشريعة والمجتمع" شيوخ أمعنوا في اذلال المرأة التونسية للمحافظة على السلطة الابوية وللحد من طموحاتها بعد ان خرجت من بيت اهلها للفضاء العام تدرس وتناضل وترفع السلاح في وجه المستعمر؟ متحفزات متنمرات للحفاظ على المكتسبات الاكيد ان التونسيات الآن - بما فيهن من لا تحسنّ القراءة والكتابة ومنذ الايام الاولى لأحداث سنة 2011 - يعشن متنمرات متحفزات للوقوف في وجه كل من تسول له نفسه ان يعود بهنّ الى الوراء ويهدد مكتسباتهن.. الوراء الذي تناولته سلمى بكار في فيلم "الجايدة" في "دار جواد"، الدار التي كانت تفقد فيها المرأة انسانيتها وكرامتها وتهان بإجبارها على معاشرة زوج لا تريده لإذلالها "وتكسير شوكتها" ودوس انفتها وعزتها وإثنائها عن رفضها ان تكون تابعة ذليلة وثانوية في حياة زوجها. " دار جواد" كانت تسجن فيها من ترفض الاذعان لتعليمات السلطة الذكورية ومن تتجرأ وتطلب الطلاق وتبعد فيها الفتاة عن رجل يختاره قلبها استنادا الى المذهبين الحنفي والمالكي اللذين سادا في تونس قبل الاستقلال وفسرهما الشيوخ على قياس احلام الذكور ورغباتهم في استبعاد المرأة من الحياة العامة والتحكم حتى في مشاعرها والحرص على ان لا يتغير وضعها الى الأفضل. الاهانة التي تلحق بالمرأة في هذا السجن الغريب ليست في اجبارها على العمل اليومي الشاق والقاسي وتعلم الصنائع والطبخ والصبر، وانما الاهانة هي ان يتم تجويعها وحرمانها من ابسط حقوقها الانسانية ومن رؤية ابنائها وأهلها وممارسة شتى انواع الضغوطات عليها. والإهانة الاكبر تكون في استنباط "الجايدة" وهي امرأة لأشكال من التعذيب لا تعرف خطورتها وتأثيرها على المرأة إلا المرأة نفسها. اهانة لا يمكن لمن عاشت في ظل مجلة الاحوال الشخصية التونسية وما اجري عليها من تنقيحات ان تتوقع ما تتركه من جروح لا تندمل وتتقرح بالاستسلام وبالإذعان لطلبات الزوج او من تسبب في الحكم عليها بالعيش لمدة غير محددة في "دار جواد". كيف تحولت دار جواد من مؤسسة ردعية حمائية الى سجنية؟ ولكن لا بد من التوضيح ان الحكم بالعيش في "دار جواد" لم يكن في البداية لإذلال المرأة فقط وانما كان لحمايتها من عم لا يريدها ان ترث او اخ او اهل زوج مات وتركها حاملا وحتى لا تتهم بالزنا من بعده ليحرم ابنها من ورثة ابيه او زوجة اب شريرة وأب غير قادر على حماية ابنته وهو ما تقوله بعض الحكايات الشعبية الشفوية . اما تحولها الى مؤسسة سجنية تمارس فيها كل اشكال التعذيب فقد بدا يستفحل خصوصا مع خروج المرأة للفضاء العام وإصرارها على التعلم من ناحية وظهور مشاركتها في النضال ضد المستعمر وفي حرب التحرير من ناحية اخرى. وقد كانت مساهمة المرأة في تلك الفترة بالذات على خطين الاول المقاومة بحمل السلاح في الجبال والأرياف ومساعدة الفلاقة والمقاومين بالتموين والمعلومات والخط الثاني هو النضال السياسي في المدن والمشاركة الفعالة في المظاهرات والمسيرات والاجتماعات الشعبية وتكوين تنظيمات نسائية مثل الاتحاد النسائي الاسلامي التونسي سنة 1936 وبروز مناضلات مثل بشيرة بن مراد وخديجة طبال وآمنة ابراهيم التي استشهدت في معركة طبلبة يوم 23 جانفي 1952 وشريفة المسعدي اول مناضلة نقابية تنتخب في الهيئة المديرة لاتحاد الشغل سنة 1949. ويمكن ان نذكر ايضا وان كان المجال لا يتسع لذكرهن جميعا مناضلات ومجاهدات من كل جهات تونس التحقن بالحركة الوطنية منذ بدايتها وبعضهن قدمن ارواحهن فداء لتونس وتعرضن الى الاعتقال والسجن بسبب مشاركاتهن في المقاومة المسلحة مثل امطيرة بن عون بن مسعود وأسماء بالخوجة الرباعي ورفيعة برناز وآسيا غلاب وزكية بأي وفطومة النملة وشريفة فياش ومجيدة بوليلة ومبروكة دراويل وغيرهن.. عدم تبرير الاحداث اجتماعيا والاكتفاء بالإطار العائلي هنة ومع بروز المناضلات الرافضات لكل اشكال القيود الرافضات للذل والمهانة والرافعات لشعارات تحرير تونس واستقلالها وذياع صيتهن بدأت تحركات بعض الشيوخ والفقهاء ضدهن فأسرع الآباء بتزويج البنات وزاد احكام الرجل سلطته على الزوجة والأخت وتم الامعان في اذلالهن والالتجاء الى سجن للقويات منهن في دار جواد "لتكسير شوكاتهن" وحتى لا تتصلن بأخريات وتزين لهن النضال من اجل الحرية بكل انواعها و"لتكسير شوكاتهن" وقطع الطريق عليهن وهكذا تم طمس نضالهن الذي تفشى كالنار في الهشيم من اجل تعليم بناتهن في الداخل والنضال جنبا الى جنب مع الرجل في الخارج من اجل الاستقلال. ومع تطور الجدل والسجال حول كتاب الطاهر الحداد "امراتنا في الشريعة والمجتمع" الصادر سنة 1930 حتى بعد مماته وتهجم الفقهاء ورجال الدين عليه وعلى كل من يتبنى افكاره او يدعو لها او يستشهد بها انتعشت فكرة "دار جواد" وتحولت الى مؤسسة سجنية ولكن للأسف المخرجة سلمى بكار لم تشر الى هذا المعطى وهو هام وكان يمكن ان يضيف الكثير الى الفيلم اي انها لم تنزل الاحداث في اطارها المجتمعي ولم تبرر ما حدث للنساء من الناحية الاجتماعية ولم تذكر الدوافع الاصلية لسجن النساء بتلك الطريقة المهينة واكتفت بالحديث عن المحيط العائلي الضيق في حين انه ل"دار جواد" علاقة وطيدة بتطور الحركة النسائية صلب النضال التونسي ضد المستعمر الفرنسي. ولم تعالج المخرجة الموضوع فنيا بل اخرجته تقريبا في شكل لوحات ومشاهد وحالات ولم تربط بين بطلاتها إلا في اطار احداث "دار جواد" فكانت علاقة المرأة بالعالم الخارجي مبتورة ومحكومة بما يرويه لها الرجل مما لم تشارك فيه وهذا غير معقول لان ما حدث في الخارج كانت المرأة التونسية طرفا فاعلا فيه. وهو ما جعل الفيلم اكثر قربا من الشريط الوثائقي عن حدث تاريخي ما، ولعل سلمى كذلك لم تفكر في الفن بقدر ما فكرت في الرد على من هدد مكتسبات المرأة وحث على التراجع عن مجلة الاحوال الشخصية بعد 11جانفي 2011 ومن ارادوا ارجاع المرأة الى وضعها القروسطي الوضع الذي وصفته في "دار جواد". اللعب على خطوات المرأة بين الحذر والثبات كان جميلا ومعبرا بالنسبة للخاتمة وددنا لو لم يكن ذلك الخطاب السياسي المباشر الخالي من الفن والبحث والاجتهاد للبطلة وجيهة الجندوبي ولو ادرج ذلك النص الحماسي في اطار تغطية اعلامية لإحدى جلسات المجلس تذكر خلالها المذيعة اهم ما ورد فيه لتستمع اليه كل نساء تونس ولا يبقى بين جدران المجلس -وهذا مجرد رأي طبعا- علما بأننا احببنا كثيرا تحول خطوات المرأة التونسية في نهاية الفيلم من مخاتلة وحذرة وحافية الى واثقة وراسخة وبكعب عال يدق الارض دقا اعلانا عن قوة الشخصية والإصرار على الحضور الفاعل والمحافظة على النمط المجتمعي الذي اختارته واقتنعت به. يذكر ان فيلم "الجايدة" من بطولة وجيهة الجندوبي وفاطمة بن سعيدان وسامية رحيم وجودة ناجح ونجوى زهير، وخالد هويسة ورؤوف بن عمر وجمال المداني... وان سلمى بكار من المناضلات الملتزمات بفنها بقضايا المرأة وأنها وظّفت السينما في خدمة المرأة التونسية في كل افلامها من "فاطمة 75" الى فيلمي "خشخاش" و"حبيبة مسيكة رقصة النار" .