تتالى «الصفعات» الأوروبية إلى تونس، فبعد تصنيفها من الاتحاد الأوروبي بداية الأسبوع المنقضي ضمن الدول الأكثر عرضة لتبييض الأموال وتمويل الإرهاب، أتى دور الإعلام الأوروبي ليكيل لنا الاتهامات، فمنذ يومين تتهم صحيفة «لوموند» الفرنسية الدبلوماسية التونسية بأنها فشلت في منع التصنيف، بعد فشلها في توظيف سردية الديمقراطية الناشئة وفشل هدايا «الدقلة» و»زيت الزيتون» في إقناع نواب الاتحاد الأوروبي في التصويت لفائدة تونس.. مقال «مهين» من الإعلام الفرنسي أعقبه مقال أكثر إهانة، بالأمس من خلال مقال لصحيفة «الغارديان» البريطانية عنونته ب»تونس انتهت» تحدّثت من خلاله عن تحوّل تونس إلى سوق للهجرة غير الشرعية في اتجاه أوروبي، هجرة أثار حولها المقال جملة من الشكوك والريبة مستندا إلى تقرير ل»الانتربول» لشهر نوفمبر الماضي أكّد أن هناك 50 حارقا تونسيا ثبت أنهم على علاقة بالتنظيمات الإرهابية، وقد أرادت الصحيفة من خلال هذا المقال الإيحاء بأن تونس لم تعد بلدا مصدّرا للمهاجرين غير الشرعيين فقط بل كذلك بوابة لهجرة «جهادية» في اتجاه أوروبا. موقف ينسجم ويبرّر الخطوة الأوروبية المتخذة ضدّ تونس، والذي جعلها في نظر الأوروبيين دولة «مهيّأة» لتبييض الأموال وتمويل الإرهاب، وأمام كل هذه الاتهامات الأوروبية قد يجد البعض راحته في «نظرية المؤامرة» وفي مبرّرات واهية من قبيل أن ممثلي اليمين المتطرّف هم من صوّتوا ضدّ تونس، أو من قبيل أن هناك لعبة إقليمية لإجهاض الديمقراطية الناشئة في جنوب المتوسّط، ولكن اذا كان هناك دخان في مكان ما فنحن من حاول إشعال النار .. فمنذ الثورة فوّتنا الفرصة تلو الأخرى للذهاب بهذه الديمقراطية الناشئة بعيدا وعوض تكريس ودعم مناخ الشفافية والانشغال بالبحث في مصدر التدفّقات المالية المشبوهة التي أغرقت البلاد بعد الثورة، وانتعاش الاقتصاد الموازي انشغلنا بمعارك الهوّية والمعارك الحزبية ومعارك السلطة والحسابات السياسية . تصنيف «نستحقّه»! منذ 2012 قامت مجموعة العمل المالي ال»فافت» بمراجعة المعايير المهتمة بتقييم وفهم المخاطر المترتبة عن غسل الأموال وتمويل الإرهاب وكانت تونس من بين ال180 دولة المصادقة على المعايير الدولية الجديدة لغسل الأموال وتمويل الإرهاب.. لكن التزمت تونس بهذه المعايير؟ التصنيف الأوروبي الأخير يؤكّد أنه ورغم بعض المجهودات التي بذلتها الدولة خاصّة بعد 2014 وصياغة جملة من التشريعات التي تهدف للحدّ من مخاطر تبييض الأموال وتمويل الإرهاب وأبرزها قانون مكافحة الإرهاب وغسيل الأموال في أوت 2015 إلا أن أغلب الإجراءات المتخذّة لم تنجح في تطويق هذه الظواهر التي تؤثّر على مناخ الشفافية في البلاد وتسيء إلى صورة تونس بالخارج كما ساهمت في إنهاك الاقتصاد الوطني وجعله منفّر للاستثمار الخارجية عوض جلبه. فتونس ما زالت تراوح في المرتبة 75 على سلّم الشفافية الدولية تشهد في السنوات الأخيرة ،انفجارا غير مسبوق لظاهرة الفساد حتى بوجود هيئة عليا لمكافحة الفساد وبوجود قانون يحمي المبلغين عن الفساد، ففي دراسة أعدّتها الجمعية التونسية للمراقبين العموميين في سنة 2013 على عينة تمثل بعض الولاياتالتونسية وتتكون إجمالا من عدد 1003 شخص موضوعها «الفساد الصغير» أشارت 92 ℅ من العينة أن الفساد والرشوة يعتبران من أكثر المشاكل التي تعاني منها الإدارة التونسية. وتفشّي ظاهرة «الفساد الصغير» قادت لفساد كبير، تجاوز الإدارة ليمسّ قطاعات حساسة وحيوية مثل القطاع البنكي الذي وصفه تقرير لجنة التحاليل المالية بالبنك المركزي الأخير أن «الساحة البنكية جدّ معرّضة للاستغلال من قبل غاسلي الأموال خاصّة في مرحلة التمويه أي المرحلة الثانية من المسار التقليدي لتبييض الأموال وبالنظر للحجم الهائل للأموال التي تمّ تجميدها خلال الخمس سنوات الأخيرة والتي ناهز معدلها السنوي 18 مليون دينار بالإضافة إلى الحجم الهائل للرهان المالي للملفات التي تمت دراستها والذي يقدّر معدله السنوي ب2 مليار دينار أي ما يناهز 2 % من الناتج المحلي الإجمالي لتونس». وهذا ما جعل القطاع البنكي «مرتعا لتبييض الأموال» دون محاسبة ولا مراقبة، وما هو ما مثّل فرصة لشركات الواجهة في أن تجعل من تونس جنّة ضريبية ووجهة مفضّلة للتدفقات المالية المشبوهة. وأورد تقرير لجنة التحاليل المالية أنّه» تبيّن تدخّل بعض الخبراء المحاسبين في ملفات غسل أموال تعلّقت بالخصوص بأشخاص و ذوات معنوية غير مقيمة منها ما هو مسجّل بجنات ضريبية، كما تبين كذلك تدخل بعض المحامين في ملفات غسل أموال تعلقت بأشخاص طبيعيين ومعنويين غير مقيمين وذلك عبر المساهمة في تقديم استشارات تعزّز التهديدات المرتبطة بهذا القطاع «ومن بين القطاعات الأخرى التي أشّر عليها تقرير لجنة التحاليل المالية، كقطاعات ترتفع فيها مخاطر غسيل الأموال نجد قطاع الذهب والمعادن الذي تعلّقت به قضايا كبرى وكذلك قطاع العقارات الذي تم استغلاله على مرأى ومسمع الجميع في عمليات غسل أموال عبر شراء العقارات وتنامي هذا القطاع مؤخرا. الجمعيات.. «الملف التابوه» تونس مُتهمة بأنها عرضة لمخاطر تمويل الإرهاب، وأوّل متهم مُتفق عليه من أكثر من طرف هي الجمعيات التي اجتاحت الفضاء العام بعد الثورة لتبلغ 18 ألف جمعية في «انفجار جمعياتي» مهول أثار الشبهة والارتياب، وقد أقرّت الحكومة وكذلك التقارير الرسمية كتقرير لجنة التحاليل المالية أو حتى التقارير الأمنية أن عددا لا يستهان به من هذه الجمعيات كانت على علاقة بالجماعات الإرهابية في تونس وأن بعضها موّل هذه الجماعات من خلال عدّة أفعال مشبوهة ومخالفة مثل الاشتباه في تورّط بعض هذه الجمعيات في تلقي تحويلات مالية من الخارج لصالح هذه الجماعات أو في تورّط البعض الاخر في شبكات تسفير الشباب إلى سوريا والعراق للقتال صلب تنظيم «داعش» الإرهابي. وأقرّ البنك المركزي في أكثر من مناسبة ومنها تقرير لجنة التحاليل المالية الأخير أن قطاع الجمعيات أصبح يمثّل تهديدا واضحا وعلى علاقة مباشرة بالإرهاب، حيث يقول التقرير الصادر منذ بضعة أشهر وتحديدا في أفريل 2017، أنّه «تبين تورط عديد الجمعيات في شبهة تمويل نشاطات أو إعانة عائلات المقاتلين الأجانب خاصّة في الفترة بين 2011 و2014 مما جعل الجهات المعنية تقوم بتدابير وقائية عن طريق تعليق نشاطات شملت أكثر من 150 جمعية يشتبه في ارتباطها بالإرهاب». وقد اتضح للجنة ومن خلال التحليل الاستراتيجي لملفات الجمعيات «أن أغلب الأموال الواردة عن حسابات المعاينة أكّدت أن المنشأ أجنبي وتراوحت أهم العمليات المالية المعاينة بهذه التصاريح ما بين 100.000 دينار و3.000.000 دينار» وفي المقابل نجد أن هذه التصاريح عندما تحال للقطب القضائي لمكافحة الإرهاب والذي يعدّ تمويل الإرهاب مرجع نظره نجد أن هناك فقط 8 قضاة في القطب منكبون على دراسة 3 آلاف قضية إرهابية ! تضارب مصالح في قانون تضارب المصالح استمر مشروع قانون التصريح بالمكاسب ومكافحة الإثراء غير المشروع قابعا في أدراج مكتب مجلس نواب الشعب لأشهر طويلة، ولم تتذكّر لجنة التشريع العام في البرلمان هذا المشروع الاّ بعد تصنيف تونس في القائمة السوداء لتخرجه من الأدراج وتنطلق المشاورات حوله، هذا القانون الذي كان من الممكن أن يضع حدّا للتكسّب غير المشروع، وجد مقاومة من طرف أحزاب برلمانية رأت أن لا مصلحة لها في تمريره رغم تعدّد المبادرات في العلن والصادرة من أحزاب التيار الديمقراطي، وحركة النهضة، وحزب النداء، مبادرات للتصدّي للإثراء غير المشروع وتضارب المصالح في القطاع العام ولكنها لم تر النور الى الآن، رغم أهمية الرهانات في مكافحة الفساد إلى درجة أن الحكومة عندما أعلنت حربها ضدّ الفساد لم تجد قانونا يسندها فلجأت تارة إلى تفعيل إجراء «غير ديمقراطي «وهو الوضع تحت الإقامة الجبرية وطورا الى مرسوم المصادرة وكلها إجراءات تم ابطالها أمام القضاء لغياب قانون التكّسّب غير المشروع وقانون تضارب المصالح والذي في صورة تفعيله قد يجد بعض النواب أنفسهم في موقع تتبع قضائي، خاصّة بعد تورّط عدد من السياسيين في قضايا فساد وتبييض أموال دون أن يحسم القضاء في شأنهم الى اليوم.