"نحن الأمنيون والعسكريون عندما يتم تعييننا أو عندما يتم إعفاؤنا لا نسأل عن الأسباب بل نؤدي المهمّة فحسب.." بهذه الكلمات علّق وزير الداخلية السابق لطفي براهم على خبر إقالته مؤخرّا من منصبه كوزير للداخلية.. لكن هذه "الإقالة" مجهولة الأسباب بحسب لطفي براهم،"أقامت الدُنيا ولم تقعدها "كما لم تفعل أي إقالة لوزير من قبل.. إقالة تلقفتها وسائل إعلام محلية ووطنية وأسهبت في شرح أسبابها وخلفياتها ووضع السيناريوهات بشأنها بعد أن فشلت الحكومة على المستوى الاتصالي في تقديم الأسباب"منطقية" ومقنعة حولها بالإضافة إلى ما تبعها من تعيينات شملت مناصب حسّاسة في مختلف الأسلاك الأمنية. وهذه التعيينات التي تم تأويلها إعلاميا وكأنها حركة "تطهير" صلب وزارة الداخلية وخاصّة تعيينات يوم الأحد الماضي التي شملت أهم إدارات الحرس الوطني غذّت الشكوك حول حقيقة ما يحصل في وزارة الداخلية خاصّة مع تجنّد وسائل إعلامية دولية مؤثّرة للتسويق لسيناريوهات"مخيفة" رغم سذاجة طرحها حول انقلاب مزعوم كان يُدبّر له ب"ليل" من طرف وزير الداخلية المُقال! ورغم أن لطفي براهم رفض أن يُغادر في صمت وأبى إلا إن يبرئ نفسه أمام الرأي العام أمام التهم الأخيرة التي لاحقته وحفّت بإعفائه من منصبه، إلا إنه وعكس ما كان متوقّعا لم ينجح حواره الأخير في تقديم أسباب "مقنعة" للإقالة بقدر ما نجح في طرح المزيد من الأسئلة الحارقة حول ملفات خطيرة، كملف الإقامة الجبرية الذي طال على مدى الثلاث سنوات الماضية من وُصفوا سياسيا ب"إرهابيين محتملين" أو "مورّطين في الفساد" الى حين جمع الأدلّة بشأنهم، كما وأن لطفي براهم أماط اللثام لأوّل مرّة عن بعض أسباب زيارته الى السعودية التي أثارت الجدل والتي كانت النواة الأولى لحبكة رواية "الانقلاب المزعوم" فقد ذكر براهم أن من أسباب زيارته هو التحضير لعودة "الإرهابيين التونسيين" المحتملة من بؤر التوتر.. ويعتبر وزير الداخلية السابق أوّل مسؤول في الدولة يتطرّق الى ملف عودة المقاتلين ويرفع السرّية عن هذا الملف الذي يُشتغل عليه في "صمت" صلب الحكومة ومن خلال اللجنة الوطنية لمكافحة التطرّف والتي تم إحداثها للغرض بدعم من مركز"هداية" الدولي والذي مقرّه الامارات العربية المتحدّة ويعمل على إعادة إدماج المقاتلين في بؤر التوتّر في مجتمعاتهم "الأم" بعد عودتهم من سوريا والعراق تحديدا. «الإقامة الجبرية» تربك علاقة الوزير برئيس الحكومة بعد حادثة محمّد الخامس الارهابية في نوفمبر 2015 وفي اطار تفعيل قانون الطوراىء اضطرت وزارة الداخلية - وفي غياب أدلّة وبراهين للادانة القضائية- لاتخاذ جملة من الإجراءات الاستثنائية بوضع عدد من الأشخاص تحت الاقامة الجبرية بسبب الاشتباه في انتمائهم الى جماعات متطرفة أو بسبب عودتهم من القتال في بؤر التوتر،وقد جاوز عدد الأشخاص المشتبه بهم والذي تم وضعهم تحت الاقامة الجبرية ال92 شخصا. وبعد اعلان رئيس الحكومة يوسف الشاهد في شهر ماي من السنة الماضية حملة مكافحة الفساد استغل اجراء حالة الطوراىء وقام من خلال وزير الداخلية الأسبق الهادي مجدوب بوضع عدد من الشخصيات تحت "الاقامة الجبرية".. هذا الاجراء السالب للحرّية بعيدا عن الضمانات القانونية والقضائية وان كان يستمّد شرعيته من الأمر المنظّم لحالة الطوراىء والصادر سنة 1978 الاّ أنه طالما وجد معارضة شديدة من المنظمات والهيئات الحقوقية الوطنية والدولية. ويبدو أن وزير الداخلية السابق والذي تم تعيينه في سبتمبر الماضي وبعد أشهر من اتخاذ قرار وضع أفراد متهمين بالفساد تحت "الاقامة الجبرية" كان يتبنّى نفس المعارضة وعندما كان يتحدّث عن خلاف قانوني وتقني بينه وبين رئيس الحكومة كان يشير بصراحة الى اجراء الاقامة الجبرية الذي واجه انتقادات شديدة خاصّة عند تفعيله في اطار ما سمّي بحرب الحكومة على الفاسدين، ومن التصريحات المثيرة التي أدلى بها وزير الداخلية في حواره الأخير لاذاعة "موزاييك" عندما قال"وجدنا 7 اشخاص تحت الاقامة الجبرية دون ملفات ودون تهم.. وبعضهم كان على وشك الانتحار". وتكمن خطورة هذا التصريح أوّلا في كون أن من أدلى به هو وزير الداخلية الذي يخوّل له منصبه الاطلاع على كل التفاصيل والخفايا التي تحيط بإيقاف الأشخاص وكذلك لأنه يعيد الجدل من جديد حول الإيقافات التي تمت تحت ما يسمّى بالحرب على الفساد والاتهامات التي رافقتها والتي أشارت إلى كون هذه الإيقافات كان هدفها تصفية حسابات وليس مكافحة الفساد وإلا ماذا يعني وزير الداخلية السابق عن إيقافات تمت دون ملفات ودون تهم! وهو ما يعدّ تعدّيا صارخا على القضاء وسلطته وعلى دولة القانون والمؤسسات واستغلالا مريبا لإجراء الطوارئ. استلهام تجربة السعودية في "المناصحة" في بلد يتصدّر شبابه طليعة المقاتلين الأجانب في بؤر التوتّر باسم "الجهاد" تصبح مسألة عودة هؤلاء المقاتلين بعد الهزيمة النكراء التي مُنيت بها أغلب الجماعات المقاتلة خاصة في سوريا والعراق وعلى رأسها "داعش"، بمثابة "الكابوس" الذي يتطلّب من تونس ايجاد حلول لاستعادة "بضاعتها الفاسدة" بضغط واكراه من المجتمع الدولي وخاصّة القوى الكبرى التي تدخّلت في أكثر من بؤرة توتّر لقتال هذه الجماعات. وكان لطفي براهم ومن خلال حواره الأخير، أوّل مسؤول في الدولة يعترف ب"التحضير لعودة الإرهابيين المحتملة من بؤر التوتّر" من خلال زيارته إلى السعودية التي أسالت الكثير من الحبر وأثارت جدلا بسبب غموض تفاصيلها ولكن الوزير المُقال قال صراحة أن جزءا من زيارته كان للقاء ممثلّي مؤسسات مختصة في نزع الإرهاب. وبالتالي فإن زيارة وزير الداخلية السابق وباعتبار أن وزارة الداخلية موكولا لها "حصريا" التعامل مع ملف العائدين والبحث في سبل إعادة إدماجهم كان هدفه الاطلاع على تجربة السعودية في المناصحة، وهي التجربة التي انطلقت في 2006 مع إحداث مركز "محمّد بن نايف " والذي يهدف إلى لاستيعاب المورّطين في التطرّف واعادة ادماجهم في المجتمع من خلال تصحيح المفاهيم والأفكار العقائدية، وحسب ما توفّر لدينا من معطيات لطفي براهم والوفد المرافق له اطلع على تجربة السعودية في المناصحة والتقى ممثلين عن مركز محمّد بن نايف في مسعى لاستلهام تجربة السعودية والاستعانة أيضا ببعض كفاءاتها لاعادة ادماج المقاتلين التونسيين العائدين من بؤر التوتّر وهو البرنامج الذي بدات الدولة التونسية في وضع تفاصيله منذ بداية 2014 مع حكومة المهدي جمعة عندما بدأت تعدّ الاستراتيجية الوطنية لمكافحة التطرّف واكتمل نظريا مع احداث اللجنة الوطنية لمكافحة التطرّف بمساعدة مركز"هداية" الدولي الذي يعمل على اعادة ادماج المقاتلين، واليوم هو بصدد وضع آليات لتطبيقه عمليا من خلال الدفعة الأولى من المقاتلين الذين تم تسلّمهم من تركيا ومن غيرها من دول النزاع. الانقلاب المزعوم والتعيينات منذ مغادرته لوزارة الداخلية لاحقت الوزير السابق لطفي براهم تهم خطيرة حول تدبيره ل"انقلاب" تهم بدت "ساذجة" بالنسبة للرأي العام في تونس ولكن اللافت أنه تم تداولها دوليا من عدّة وسائل اعلام معروفة ومؤثرّة، هذه التهمة التي اعتبرها براهم "اشاعة مغرضة" هدفها النيل من استقرار البلاد وأمنها وتوّعد بملاحقة مرّوجيها قضائيا، وجدت في التعيينات التي تلت اقالته وشملت مختلف الأسلاك الامنية مناخا يغذّيها ويدفع بها كل مرّة الى الواجهة خاصّة بعد تعيينات الأحد الماضي والتي شملت أكثر من 30 منصبا في سلك الحرس الوطني والتي رغم تبريرها بوجود عدد كبير من الشغورات الاّ انها مازالت تثير العديد من الأسئلة "المخيفة" خاصّة بعد التصريح المثير الذي أدلى به أمس رئيس لجنة الأمن والدفاع عبد اللطيف المكّي والذي طالب وزير الداخلية بالنيابة بتقديم توضيحات للرأي العام بشأن التعيينات الأخيرة وخاصّة تعيينات يوم الأحد الماضي بسلك الحرس الوطني و"التفسير للرأي العام أسباب الإقالات سواء كانت تندرج في اطار عملية الاصلاح أو نتيجة تخوفات أخرى"وفق تعبير رئيس اللجنة البرلمانية للامن والدفاع والقيادي في حزب حركة النهضة الشريك في الحكم. ويعدّ تصريح عبد اللطيف المكّي تصريحا خطيرا بالاضافة التي التدوينة التي نشرتها النقابة العامّة للحرس الوطني على صفحتها الرسمية في اطار تفاعلها مع التعيينات الجديدة وقالت فيها "عاد الدرّ الى معدنه وانتصر سلك الآباء والأجداد ولا عزاء لتعيينات الأحزاب ورجال الأعمال المشبوهة".. كل ذلك في السياقات الحالية المفتوحة على كل السيناريوهات والنهايات والمتغذّية من مناخ الاشاعات و"البلطجة" الافتراضية على مواقع التواصل الاجتماعي، في انتظار أن تتدارك الحكومة فشلها الاتصالي وتنجح في ادراة أزمة "اقالة وزير"ما كان يُفترض بها أن تثير كل هذا الجدل.