اختارت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين أن يكون لها السبق في فتح باب الحوار حول موضوع الحريات الفردية ومشروع مجلة الحقوق والحريات الفردية المؤجل "بقرار جمهوري" إلى حين.. وللغرض اختارت النقابة أن يكون المدخل لهذا الحوار نقاش شريط وثائقي قصير للصحفية أمل المكي عنوانه "موش وقتو" حرية التفكير.. حرية المعتقد.. حرية الضمير.. حرية التصرف في الجسد. ناجي البغوري رئيس النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين أكد خلال لقاء انعقد أمس بمقر النقابة على أن حرية الصحافة والتعبير ليست في جزيرة معزولة عن بقية الحريات. وأضاف أنه لا يمكن الحديث عن الحق في المعلومة والإعلام بمعزل عن سائر الحقوق لذلك فإن الصحفي بصفة عامة غير محايد عندما يتعلق الأمر بالحقوق والحريات. ولم يخف البغوري اعتراض النقابة على بعض النقاط الواردة في مشروع القانون الأساسي المتعلق بمجلة الحقوق والحريات الفردية الذي أعدته لجنة الحريات الفردية والمساواة برئاسة الأستاذة بشرى بلحاج حميدة وأهمها عقوبة الإعدام، وقال إن النقابة الوطنية كانت من أولى المنظمات المطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام إلغاء تاما من التشريعات التونسية ولكن مشروع المجلة ولئن اقترح إلغاء العقوبة فقد قدم اختيارات بديلة في صورة رفض هذا المقترح. وأشار نقيب الصحفيين إلى أنه رغم بعض التحفظات فإن التقرير الذي قدمته لجنة الحريات الفردية والمساواة يعد خطوة مهمة جدا في مسار إرساء دولة المواطنة التي تحترم الحقوق والحريات، وذكر أنه لا معنى لمفهوم الحريات الفردية إذا لم توجد فضاءات إعلامية تناقشه وترسخه في الأذهان وفي هذا السياق يأتي دور الصحفي.. فهو مطالب بفتح باب النقاش الحر التعددي الديموقراطي والثري في إطار الالتزام بأخلاقيات المهنة الصحفية وبمبادئ حقوق الإنسان. وأضاف البغوري أنه من مؤشرات قياس نجاح عملية الانتقال الديمقراطي، خلق رأي عام قادر على التخلص من وصاية أي سلطة كانت. ويرى نقيب الصحفيين أن تونس بعد الثورة فوتت على نفسها تحقيق عدالة انتقالية فعلية.. لأنها لو فعلت ذلك كانت ستعطي معنى للحريات الفردية.. تلك الحريات التي كانت السلطة السياسية تنتهكها في كل حين وتدوس عليها لمجرد الشبهة، فيكفي أن تشك السلطة في فرد حتى توقفه تعسفيا وتسلط عليه شتى أشكال الاهانة لأنه يصلي.. وفسر أن حرية المعتقد كانت مهددة، وكان من المفروض بعد الثورة أن تقع المكاشفة والمساءلة والمحاسبة حتى يعرف الشعب ما عاناه الضحايا وما اقترفه الجلادون وحتى يقع إرساء الآليات الكفيلة بعدم تكرار نفس الانتهاكات.. لكن هذا لم يحدث، ومازالت انتهاكات الحرمة الجسدية للأفراد متواصلة الى غاية اليوم، ومازال هناك تعذيب. ووجه البغوري نداء للمتظاهرين ضد الحريات الفردية وقال لهم فكروا مليا وتعمقوا في ما جاء في التقرير وستدركون أن كل الناس سيستفيدون من الحريات الفردية، وقال لمن يعترضون على مطلب الغاء عقوبة الإعدام إنه من السهل جدا إلصاق تهم كيدية بالناس من أجل قطع الأعناق فهذا تماما ما يحدث في بلد شقيق قام بثورة كما فعلت تونس. رسالة قوية الشريط القصير الذي تابعه رواد نقابة الصحفيين من صحفيين وجامعيين وحقوقيين دام 12 دقيقة فحسب لكنه بعث رسالة قوية مفادها أنه لا يصح القول "موش وقتو" عندما يتعلق الأمر بالحرية.. فحرية الفكر وحرية الضمير وحرية المعتقد وحرية الجسد يجب ان تحترم وأن تمارس في كل وقت. أمل المكي صاحبة الشريط قالت إن الصحفي يجب ألا يكون محايدا في معركة الحريات، خاصة الحريات الفردية.. وعليه أن يكون صلب هذه المعركة المصيرية في تاريخ البلاد. وهو نفس ما أشار اليه الصحفي الهادي يحمد الذي قدم الشريط وأدار الحوار، وعبر يحمد عن ارتياحه للجدل الذي دار حول تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة، وذكر أنه بصرف النظر عن دعوات التكفير والتحريض والكراهية فان هذا الجدل ظاهرة صحية، وبين ان من تظاهروا يوم 11 أوت ضد التقرير هم جزء من المجتمع التونسي ولا يمكن لأحد أن يقصيهم، ومن تظاهروا يوم 13 أوت لمناصرة التقرير هم أيضا جزء من المجتمع لا يمكن لأحد أن يصادر آراءهم. وترى الأستاذة والناشطة النسوية عائدة بن شعبان أن معركة الحريات الفردية هي أهم معركة على الإطلاق سيخوضها التونسيون. وأضافت بن شعبان المعروفة في الأوساط الحقوقية بدفاعها المستميت عن حقوق النساء الاقتصادية والاجتماعية وحرياتهن، أن المجتمع المدني يجب أن يواصل النضال الذي بدأه منذ سنوات وأن يكون يقظا لأنه لا شيء يضمن له أن إجراء المساواة في الإرث الذي أقره رئيس الجمهورية يوم 13 أوت سيطبق.. وأضافت أن الحديث عن الحريات يجب ألا يظل حبيسا بين الجدران حيث تقبع النخبة بل يجب تعميمه على نطاق واسع وعلى النخبة ان تنتشر وتتحدث مع عامة الناس وتقنعهم بأن الحرية مصدر سعادة الفرد وأن سعادة الفرد في حريته. أفكار خاطئة لم يخف القاضي عمر الوسلاتي حيرته من مواقف أبداها عدد من المثقفين والحقوقيين من الحريات الفردية، وقال انه يستغرب من محام وهو الذي يدافع عن سيادة القانون عندما يقول لا للحريات الفردية، كما يستغرب من قاض أعطاه الدستور دور حماية الحقوق والحريات أن يتنازل عن هذا الدور وأن يؤل الدستور في اتجاه يضيق من الحقوق والحريات لا في اتجاه يدعمها. ولاحظ الوسلاتي أنه تم القيام بعملية إغراق تام للمجتمع في الأفكار الخاطئة لذلك ستكون مهمة النخبة في معركة الحريات الفردية صعبة. وقدمت نجاة عرعاري الأخصائية في علم الاجتماع مقاربة نقدية للشريط الوثائقي وتحديدا لشهادة عاملة الجنس بمقابل، وقالت إن عاملات الجنس حالات اجتماعية، ومفهوم حرية الجسد لا يمكن حصره في هذه الزاوية.. فحرية الجسد تعني أنه لا أحد يمكنه ان يمارس أي سلطة على الجسد. وأثنت الصحفية بمؤسسة الإذاعة التونسية تبر النعيمي بدورها على ما جاء في الشريط الوثائقي لكنها نقدته وقالت إنه لم يعبر عن وجهة النظر الرافضة للحريات الفردية، أما الصحفية خولة شبح فأوضحت أن الدستور أقر جملة من الحريات والمبادئ الأساسية وهذا مكسب لكنه لا يكفي بل يجب وضع تشريعات تضمن احترام هذه الحريات، وفي هذا السياق جاء مشروع القانون الأساسي المتعلق بمجلة الحقوق والحريات الفردية الذي اعدته لجنة الحريات الفردية والمساواة.. فهذه المجلة جاءت لتعديل التشريعات التونسية في اتجاه ارساء الحريات والحقوق التي أقرها الدستور. حرية الفكر الدكتور وحيد الفرشيشي المختص في القانون العام ورئيس جمعية الحريات الفردية والناشط في تحالف المساواة والحريات الفردية قال إن حرية التفكير تشمل حرية الضمير وبين أنه لا يمكن أبدا أن نضع قيودا على حرية الفكر، لأن الأصل هو الحرية والحد منها هو الاستثناء. وذكر أن الدستور نص على أن الدولة تضمن "للمواطنين والمواطنات الحقوق والحريات الفردية والعامّة، وتهيئ لهم أسباب العيش الكريم". وفي الحريات الفردية على حد تعبيره هناك جانب فكري معنوي وجداني وجانب مادي يتعلق بالجسد، ولكن المنظومة القانونية التونسية للأسف فيها نصوص قديمة تعود الى بدايات عهد الاستعمار ولم يقع التخلص منها الى اليوم رغم تحقيق الاستقلال ورغم اعلان الجمهورية ورغم سن دستور الف وتسعمائة وتسعة وخمسين ورغم الاتفاقيات الدولية العديدة التي صادقت عليها البلاد في علاقة بحقوق الانسان وحقوق المرأة وحقوق الطفل ورغم سن دستور 2014 ورغم اصدار قانون منع الاتجار بالبشر وقانون مناهضة العنف ضد المرأة فان المجلة الجزائية مازالت تعكس ما تضمنته المجلة الجزائية الفرنسية في عهد الاستعمار.. كما انها تحتوي على أحكام لم تعد صالحة لهذا الزمان من قبيل احتوائها على عبارات الفسق والتجاهر بما ينافي الحياء. وفسر أستاذ القانون أن الدعوة إلى سن مجلة الحريات الفردية جاءت بسبب ذلك القصور الموجود في المجلة الجزائية، وقال :"نحن نريد سن القوانين ليس لترف فكري بل لأنها ضمانة لحماية الحريات الفردية وحينما يتقدم المجتمع في ممارسة تلك الحريات لن يكون بالتأكيد في حاجة الى تلك القوانين".. وأوضح الدكتور الفرشيشي ان اللبس الذي يختلقه البعض من خلال اللجوء الى الاستشهاد بالفصل الأول والفصل الثاني من الدستور لا معنى له، لأن الفصلين معا لا علاقة لهما بالحريات بل الفصل 49 هو الذي يجب التركيز عليه. وينص الفصل 49 من الدستور على "أن القانون يحدد الضوابط المتعلقة بالحقوق والحريات المضمونة بالدستور وممارستها بما لا ينال من جوهرها. ولا توضع هذه الضوابط الا لضرورة تقتضيها دولة مدنية ديمقراطية وبهدف حماية حقوق الضمير او لمقتضيات الامن العام او الدفاع الوطني او الصحة العامة او الآداب العامة وذلك مع احترام التناسب بين هذه الضوابط وموجباتها وتتكفل الهيئات القضائية بحماية الحقوق والحريات من اي انتهاك ولا يجوز لأي تعديل ان ينال من مكتسبات حقوق الانسان وحرياته المضمونة في هذا الدستور". وخلص الجامعي الى انه في صورة التوصل الى ترسيخ احترام حرية الضمير والدولة المدنية الديموقراطية فلن تكون الحريات الفردية والمساواة في الارث موضوع جدال. وقال: "علينا ان نحذر فهناك من يريد سحب المجتمع الى جدل ديني حول الحريات الفردية والمساواة ونحن نريد ان نسحب المجتمع الى جدل قانوني حقوقي". بهذه العبارات التي صورت معركة الحريات الفردية والمساواة على أنها معركة شد وجذب أسدل الستار على تظاهرة نقابة الصحفيين وفي نفس المشاركين فيها أسئلة حارقة لم يتسع الوقت لطرحها.