لا يبدو أن أيا من المجالات أو القطاعات قد سلم من فوضى انكشاف العورات وتفاقمها، فالخدمات الصحية والبنية التحتية والمعيشة التي ترتفع تكلفتها يوما بعد يوم ووضع المطارات وجودة الخدمات واحترام قواعد السلامة الغذائية والمحافظة على النظافة وغيرها كثير من قائمة الأمور التي لم تعد كما كانت عليه، فسقط عن مساوئها القناع أو تراجعت سنوات ضوئية حتى بتنا نسمع كثيرا من المتأففين والمتذمرين المتأسفين على حال تونس وما وصلت إليه. ولو عدنا بخط الأحداث ولو قليلا إلى الوراء، لتبين لنا ربما أن كل شيء قد بدأ بعطب في مكان محدود، بتغاضي هذا أو ذاك عن القيام بما يجب القيام به.. عن اتخاذ الإجراء الواجب اتخذته.. كل شيء بدأ بزجاج مكسور. فانطلقت أحداث التراجع والتقهقر إلى الوراء وبات الحال اليوم سيئا لدرجة لم يبلغها من قبل. وليس في ذلك قراءة تشاؤمية لوضع بلد لا ينفك مواطنوه عن الإغراق في التشاؤم والكفر بإمكانية أن يؤدي أمر ما إلى تغيير للأفضل، زد على ذلك مشاحنات السياسيين وصراعاتهم التي قد تحيّر كل من يرى أنه لم يعد هنالك الكثير للصراع حوله. السيارة التي تهشمت أولا الخطوات والتفاصيل الأولى هي التي تفاقم الأمور إلى حد أزمة. والأمر بغاية البساطة فإن كانت الظروف المحيطة ايجابية فقلما ما يمكن أن يتجه الفرد إلى التكسير والتخريب وإلقاء الفضلات في الشارع وعدم المبالاة. والأمر تشير إليه نظرية النوافذ المحطمة التي عرفت النور في مقال لجايمس ويلسون وجورج كيلينغ عام 1982 تحت عنوان «النوافذ المحطمة. الشرطة وسلامة الحي» لتتطور فيما بعد النظرية سنة 1996 في كتاب شارك كيلينغ في كتابته. هذه النظرية تقوم على افتراض أن ظاهرة غير ضارة نسبيا مثل القمامة في الشارع أو الكتابة على الجدران أو وجود سيارات مهجورة يمكن أن تؤدي إلى وضع أسوأ يقوم على حالة كاملة من الإهمال مع ارتفاع معدلات جرائم العنف والاعتداء على الممتلكات. فعوامل مثل أعقاب السجائر في الشارع وأكياس القمامة على الأرصفة والمباني المتهرئة التي لم يتم إصلاحها كلها تمثل بيئة يمكن أن تحفز على سلوك غير مرغوب فيه معاد للمجتمع بحسب الباحثين. فإذا قمنا مثلا باختبار بسيط مثل وضع سيارة جديدة في حي شعبي ترتفع فيه نسب الجريمة والفقر وسيارة جديدة أخرى في حي هادئ يقطنه الأثرياء ونخبة المجتمع، وعند العودة لتفقد السيارتين بعد مدة من الزمن والتأكد من سلامتهما ومدى تعرضهما للسرقة والتخريب، النتيجة تكون متوقعة.. فقد تعرضت السيارة في الحي الأول فعلا للتخريب والسرقة وبقيت السيارة في حي الأثرياء على حالها لم يمسسها مكروه. وفي حقيقة الأمر كان من السهل جدا أن نستنتج أن ثقافة التخريب والسرقة طبقت على السيارة عندما وضعت في محيط يقوم على التخريب والسرقة ولكن في الحي الهادئ لم يحدث التنكيل بالسيارة. نافذة واحدة تكفي ولكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فعندما نلحق تغييرا بسيطا بالسيارة يتغير كل شيء. فتحطيم نافذة السيارة التي وضعت في الحي الهادئ وتركها مدة معينة انجر عنه تعرضها للسرقة والتخريب مثلما حدث مع السيارة في الحي الشعبي الفقير وهنا يتضح أن تلك العوامل البسيطة غير السليمة وعندما يتم إهمالها تتفاقم إلى مشاكل اجتماعية أكبر. فقد لا يتجه الكثيرون للتخريب وإهدار الأملاك أو حتى إلقاء الفضلات على الأرض لأن النظافة المحيطة ستشعر الفرد بتأنيب الضمير وبأنه يأتي فعلا غير مقبول وحتى وإن لم يكن من المهتمين بالنظافة، فإنه قد يخير إلقاء الفضلات في السلة المخصصة بدل إلقائها في الطريق النظيف وهذا ربما ما يفسر أن الكثير ممن يهاجرون إلى الخارج يتبنون سلوكيات جديدة إما حبا أو كرها. ولكن بمجرد أن يتحطم زجاج السيارة يكون الأمر بمثابة الضوء الأخضر لمزيد التخريب والسرقة، لأن الفرد هنا لن يأتي فعلا جديدا على محيط متجانس سليم ونظيف وإنما هو يكرس واقعا موجودا فعلا فتتسع دائرة التخريب والسلبية. وهذا تماما ما يبدو أننا نعيشه اليوم فكثيرة هي الأخبار عن تدهور القطاعات، وتراجع الخدمات، عن المستشفيات العمومية التي قد لا توجد كلمات لوصف وضعها، عن السجون الممتلئة، عن الشوارع غير النظيفة، عن الطرقات غير المهيأة والتي ما أن يتم إنجازها حتى يغلق الطريق مجددا للإصلاحات، عن عدم الاحترام، عن الحقد والكراهية، وعن الغضب المستشري في نفوس من يجلسون وراء عجلة القيادة على الطرقات، عن الاقتصاد الذي يتراجع.. كل ذلك بدأ بخطأ، بغرفة لا تصلح للآدميين في مستشفى إلى أن تحول كل المستشفى إلى تلك الحالة، بعمود نور لا يعمل إلى أن غرقت كل الطرقات في الظلام، إلى طريق غير نظيف إلى أن أصبحت كل الطرق كذلك. وفي النهاية لن تنقلب لعنة نظرية النوافذ المحطمة إلى العكس حتى يصلح كل منا زجاج سيارته.