على خلاف ما كان مطلوبا ومنتظرا، لم تحافظ الدورة التاسعة والعشرون لمهرجان أيام قرطاج السينمائية على البريق والألق المعتاد والمنتظر من أعرق مهرجان سينمائي في جنوب المتوسط. بل مر خافتا باهتا لا لون ولا طعم له رغم "البهرج" الذي رافقه ومحاولات الإقناع بأن هناك مجهودات جادة وهادفة في مستوى هذا المهرجان الذي كان يعد صورة ناصعة لتونس في الخارج وقبلة المبدعين ونجوم الشاشتين الكبيرة والصغيرة في العالم العربي تحديدا. وهو "هبوط" و"تدحرج" ملحوظ تتحمل مسؤوليته الجهات المشرفة على تنظيم المهرجان. إذ لم يشفع لدورة هذا العام عدة عوامل ومعطيات كان يمكن توظيفها لخدمة هذه الاحتفالية السينمائية الكبرى، لعل أبرزها الفضاء الجديد الذي احتضن جانبا هاما من فعاليات الدورة وهو قلعة مدينة الثقافة أو تطور الأدوات والتكنولوجيات المتطورة او شبكات التواصل الاجتماعي ولا حتى عدد الضيوف المرتفع والذي غاب عنه "النجوم" بما في ذلك رموز الثقافة والإبداع في تونس بعد أن عللت الهيئة المديرة ذلك بالاكتفاء بصناع السينما. لذلك خفت صوت وضوء المهرجان ولم يستطع إنارة كامل البلاد على نحو ما كان منذ تأسيسه خاصة امام اختيار مؤسسيه وضعه على خط سينما النضال خاصة باستقطاب المبدعين في المجال من البلدان العربية والإفريقية بدرجة أولى مع الانفتاح على التجارب السينمائية الرائدة في العالم. فلم يعد المهرجان من الأولويات الثقافية في تونس في هذه المرحلة خاصة أن برنامجه ركز على العاصمة بدرجة أولى واكتفى ببعض العروض على الهامش في بعض الجهات. فيما اختارت بعض هذه الجهات عدم الاكتفاء بالمتابعة عن بعد بل توجهت إلى تأثيث واقعها بأنشطة وتظاهرات ثقافية لا علاقة لها بالسينما على غرار ما هو مسجل في بعض مدن الجنوبالتونسي على غرار قبلي ودوز وتطاوين والقيروان ثم أن المستجدات السياسية والحزبية وتوجه الاهتمامات إلى متابعة آخر التطورات في مستوى التحوير الوزاري من العوامل التي ساهمت في أفول ألق هذا المهرجان السينمائي ليضيع في زحام الأحداث والمستجدات والمشاغل، ولينحصر في مستوى الاهتمام والمتابعة على القائمين عليه ومن هم أطراف بشكل مباشر أو غير مباشر في المشهد المهرجاناتي. كما أن بعض السينمائيين من تونس ومن بلدان عربية لم تعد تغريهم المشاركة في هذا المهرجان بعد أن فضلوا التوجه إلى مهرجانات أخرى مغاربية وعربية "وليدة". ويبدو أن الاشكال يتجاوز ما هو اتصالي خاصة أن ميزانية هذه الدورة تتجاوز الأربع مليارات من مليماتنا، وإنما هو يؤكد أن هناك أزمة وجود حقيقية تهدد هذا المهرجان بعد 53 سنة من تأسيسه. فمسألة ثوابت المهرجان وأسسه التي انبى عليها أصبحت محل نقاش اليوم في الأوساط السينمائية وفي الدوائر الضيقة الفاعلة في المهرجان ممن يرون أن مراجعة شكل وأهداف "أيام قرطاج السينمائية" مسألة ضرورية اليوم تماشيا مع التطورات المسجلة في الخارطة السينمائية العالمية. يأتي ذلك أمام نجاح عديد المهرجانات السينمائية العربية والافريقية التي تأسست بعد هذا المهرجان في بسط وجودها وتصدرها قائمة المهرجانات الدولية التي تعنى بالفن السابع، مقابل تراجع صيت مهرجاننا وعدم قدرته على المحافظة على خطه. فمهمة إنقاذ هذا "الصرح" الثقافي موكولة إلى السينمائيين التونسيين دون سواهم بعيدا عن منطق الربح والمصلحة الضيقة. لأن البدائل المطروحة في المشهد الثقافي اليوم لا يمكن أن تعوض أيام قرطاج السينمائية أو تغني عنها.