في هذه المرحلة التي استفحلت فيها الخلافات بين قصري قرطاج والقصبة من جهة، وبين العائلات السياسية الثلاثة الكبرى، الدستوريون والاسلاميون واليساريون من جهة أخرى، هل أغلق نهائيا باب حسم الخلافات سياسيا وبناء توافق على أسس جديدة؟ صحيح أن الخلافات استفحلت مع اقتراب موعد انتخابات 2019... وصحيح أن إحياء الذكرى السابعة لاندلاع شرارة مسار الاحتجاجات الشعبية الاجتماعية والثورات الشبابية، اقترن بتعقد المشهد السياسي التونسي والعربي بما يبرر طرح نقاط استفهام كبرى حول مستقبل التوافق السياسي الوطني في بلادنا و»الاستثناء الديمقراطي التونسي»... لكن إذا سلمنا جدلا بأهمية مكاسب الانتقال الديمقراطي السلمي وحسم الخلافات بين الفرقاء السياسيين عبر الآليات السياسية وتقاسم التضحيات والتنازلات من أجل المصلحة الوطنية العليا، فهل لا يمكن الرهان مجددا على دعم خيار التوافق الوطني بين أطراف سياسية واجتماعية تشقها تناقضات عميقة؟ أم سوف يغلق باب الائتلاف والتوافق بسبب تصدع أغلب تجارب التوافق السياسية التي اعتمدت منذ مطلع 2011 مع هيئة «تحقيق أهداف الثورة» بزعامة الأستاذ عياض بن عاشور وحكومات «الوحدة الوطنية» منذ جانفي 2014، ومسارات التوافق الناجمة عن «اتفاق أوت 2013» بين زعيمي النداء الباجي قائد السبسي والنهضة راشد الغنوشي، ثم عن وثيقتي قرطاج 1 و2؟ إذا سلمنا أن السياسة هي فن الممكن، وأن البراغماتية تعني الرهان على نصف الكاس المليء وليس على النصف الفارغ، ينبغي التسليم بأن البديل الوحيد عن العنف والفوضى وعن الاستبداد واحتكار السلطات هو الشراكة وفق قوانين لعبة واضحة يحكها دستور وميثاق اجتماعي. إذن فإن انجاح التوافق ممكن وضرورة وطنية إذا توفرت شروطه وبُني على أسس واضحة وسليمة. في هذا السياق يمكن الاشارة إلى مجموعة من الشروط التي يجب توفرها لإنجاحه أهمها: أولا: توفر قيادات (أو زعامات) على رأس كل طرف مشارك في التوافق وليس مجرد «موظفين» و»مناضلين» تتقلب مواقفهم وسلوكياتهم لأسباب عديدة منها تغير واقعهم الوظيفي والمالي في «القيادة» وتقلب تحالفات المتحكمين في «المال السياسي» وأجندات بعض الأطراف المحلية والإقليمية والدولية. . ثانيا: أن يكون للزعامات مشروع ورؤية Vision واستراتيحية وخارطة طريق وخطة عمل تنفيذية ظرفية وموارد بشرية ومادية لتفعيل تلك الخطة وإنجاز خارطة الطريق تدريجيا. ثالثا: أن تمتلك تلك الزعامات والقيادات خبرة وكفاءة، وأن تتميز بالنزاهة والمصداقية ولا تكون مجرد «موظفين» وقع اختيارهم بسبب موالاتهم اللامشروطة وقابليتهم للمصادقة على الموقف ونقيضه والسمع والطاعة غير المشروطة. رابعا: أن يكون اعتماد التوافق مبدئيا وليس مناقضا للمرجعيات الفكرية والسياسية والأهداف الإستراتيجية، خلافا لما وقع في تونس سنة 2013 حيث ضغطت الاغتيالات والمنعرج العسكري الأمني في مصر وسوريا وليبيا واليمن على مهندسي اتفاق باريس وعلى أغلب صانعي القرار السياسي في البلاد.. خامسا: أن يحترم المتوافقون خصوصيات كل طرف وحق الاختلاف وأن يدركوا أن التوافق لايعني ذوبانا وتحالفا أبديا وغيرمشروط. سادسا: أن تحكمه وثيقة توضيحية تكون بمثابة ميثاق شرف يلزم كل الشركاء. سابعا: أن تكون المرجعيات الفكرية والسياسية للذين يتزعمونه تحترم مرجعيات التعدد الفكري والعقائدي والسياسي والحريات التي نصت عليها المواثيق الأممية والدساتير الديمقراطية وليست إقصائية أو شمولية واستبدادية إيديولوجية تبيح اضطهاد الآخر وإلحاق الضرر به وتبرير اضطهاده وقتله. ثامنا: أن تتعهد كل الأطراف بالتقييم الدوري العلني لتجارب الشراكة وللسياسات الخاصة بكل طرف بِمَا يضمن عدم تناقضها مع السياق العام للتوافق.