عندما عثرت على رواية «رجل المرايا المهشّمة» للبنى ياسين إلكترونيا بحثت عنها ورقيا في المكتبات في تونس فلم أجدها، مؤلّفتها أرسلت لي نسخة إلكترونية، لكنّني هذه المرّة الأولى التي أطالع فيها عملا إبداعيا إلكترونيا بهذا الحجم بالرغم من أنّني لا أحبّذ ذلك لكنّني استمتعت بمطالعتها ... لبنى ياسين هي روائية وشاعرة وصحفية وفنانة تشكيلية سورية تعيش في المهجر بين هولندا وكندا ودبي بالإمارات العربية المتحدة، لها عديد المؤلفات والأعمال الفنية منها مجموعات قصصية :»ضدّ التيار» 2004 «أنثى في قفص 2007، «طقوس متوحشة» 2007 ، «سيرا على أقدام نازفة» 2011 و»سبعة أزرار وعروتان»2015 ومجموعة شعرية «تراتيل الناي والشغف» 2014 و»شارب زوجتي»: مقالات ساخرة 2011 وجائزة أدب المهجر في هولاندا عن قصة بعنوان «مصلوبة على جبين الشمس»2014. قد يعتبر البعض قراءتي لهذا العمل السردي «قراءة عاشقة» والعبارة للأستاذ محمد البدوي... رواية «رجل المرايا المهشمة» على غاية من الحبكة والبنية السردية، فيها تداخل واضح بين السرد والوصف، يعاب على صاحبتها أنّها توخّت «المباشراتية « ومع ذلك فالكاتبة تمتلك أسس البناء السردي في الرواية الحديثة، برهنت في مؤلّفها هذا على أنّها تملك خيالا واسعا مما جعلها تأخذ بلبّ القارئ، روايتها مليئة بالرموز والدلالات، وقد تجلّى واضحا من خلالها أنّ موهبة لبنى ياسين في الفنّ قد أثّرت تأثيرا كبيرا في عملها السردي، لقد عالجت لبنى ياسين عديد القضايا في شكل ثنائيات منها: الحياة والموت، الحبّ والكره، القرب والبعد، التقارب والتنافر، الرضاء والاغتصاب، الجمال والقذارة، السعادة والتّعاسة، الفشل والنّجاح وغيرها...في هذه الرواية تعرّضت الكاتبة إلى عديد التناقضات التي تملأ الكون.. وفيها الشخوص متعددة ومتداخلة : ديبو وزوجته دلال شخصيتان متنافرتان تماما ، لا انسجام بينهما ،زوجان غير متكافئين، أنجبا طفلين ناجي وسالم اسمان لهما دلالة رمزية بعد حمل لم يكتمل في مناسبتين أو ثلاث وإجهاضات قسرية... تعرّضت دلال إلى الاغتصاب من قبل أبي نعيم صاحب ورشة النجارة التي يشتغل فيها زوجها، هذا الأخير غادر المنزل لزيارة والدته المريضة في قرية بعيدة، فاغتنم الشيخ المتصابي الفرصة واغتصبها وهي التي حاولت المقاومة لكنّها في النهاية استسلمت له دون رضاها ممّا ولّد لديها الكثير من الكره لهذا الرجل القذر، الفاسق في شكل شيطان، وكانت تعتقد أنّ الأمر قد توقف عند هذا الحدّ ، لكنّ هذا الاغتصاب قد أثمر جنينا حاولت إجهاضه عديد المرات غير أنّها فشلت، فأنجبت ولدا كتمت أمره عن زوجها وبقي السرّ مدفونا في صدرها، هذا الولد نزل إلى هذا الكون مشوّها ببقع حمراء في أحد خديه، اختار له ديبو اسم «صطوف» وهو بطل الرواية، رفيق :(القطّ الأعور) هو صديقه الوحيد الذي كان ينام في حضنه، فكان يحاوره ويبوح له بما يخالج صدره من مشاعر وأسرار... الاثنان صطوف ورفيق قاسمهما المشرك هو العيب الذي يشكوان منه ، والغريب أنّه لم يكن يدري على امتداد أكثر من عقدين من الزمن أنّ تلك التشوّهات قد زالت من وجهه بمرور الوقت ... صطوف كان لا ينظر طيلة حياته في المرايا حتّى لا يرى وجهه المشوّه وكانت أمّه تكنّ له كرها شديدا هو في الحقيقة كره لأبيه الحقيقي الذي اغتصبها ودمّر حياتها وماتت ولم تخبر أحدا بهذا السرّ الذي بقي مدفونا في صدرها ... صطوف هو الشخصية المحورية في الرواية التي تدور حولها الأحداث وتقلّباتها ممّا جعل القارئ يتوقّع حصول أمر ما فيفاجأ بحدوث أمر آخر مناقض تماما لتوقّعاته ، ومن الأمور التي تفاجأ بها القارئ هو وجه الشبه بين صطوف ووالده الحقيقي ويتمثّل في عرج في إحدى ساقيه وكذلك بينه وبين جدّته لأبيه ممّا جعل أبا نعيم يساوره الشكّ باعتبار تاريخ ولادته جاء بعد فترة تناهز فترة الحمل من تلك الليلة التي ارتكب فيها جريمته الشنعاء جريمة الاغتصاب ... «صطوف» عاش الفشل بشتى أنواعه ،من انقطاع عن الدراسة بعد أن تسبّبت له زوجة أبيه المزعوم، سعاد زوجة ديبو الثانية في مغادرة مقاعد الدراسة والالتحاق بورشة أبي نعيم لمساعدة والده مادّيا وهي في الحقيقة مساعدة شقيقيه ناجي وسالم على إتمام دراستهما الثانوية فالجامعية ، والوقوع في حبّ مها إحدى قريبات سعاد ، مها تزوّجت فيما بعد شقيقه «سالما» وبقي هو يحلم بحبّ هذه الفتاة دون تحقيقه ، سالم توسّط له في الحصول على شغل بالمستشفى حيث يستقبل جثث الموتى لإيداعها بالبرادات في انتظار استلامها من قبل أهاليها ...حياته كانت فاشلة ...ذات يوم استقبل جثّة عروس خالها حبيبته هيام ، فاتّضح فيما بعد أنّها لفاتن التي أسلمت الروح ليلة حفل زفافها ،فراودته فكرة قذرة شرع إثر ذلك في تنفيذها بدءا بإزالة دبابيس كانت تشدّ فستان العرس الأبيض فانغرست بعضها في يديه مما تسبّب له في نزول قطرات من الدم لوّثت بعضها الفستان ومع هذا لم يتأخّر في الإقدام على تنفيذ فعلته الشنيعة ،وهي اغتصاب جثة العروس ، عملية نهاية في الخسّة والقذارة ، بعدها سعيا منه إلى طمس معالم جريمته البشعة عمد إلى غسل جزء من الفستان وإثر ذلك جاء شقيقا العروس لاستلام الجثة ، فتفطّن أحدهما إلى الجريمة ، عندها أخبر أعوان الشرطة الذين حلّوا بالمكان وألقوا القبض على صطوف فكلفته هذه الجريمة ستّ سنوات سجنا قضاها وراء القضبان ... لقد ورث جينا خبيثا من والده أبي نعيم وهكذا لم يجن طوال حياته سوى الفشل تلو الفشل فدفع ضريبة أخطاء والده طيلة حياته...