ثماني سنوات بعد الثورة، ذات الغضب الشعبي والاحتقان الاجتماعي والمخاوف من تدهور أعمق للأوضاع الاقتصادية يُحكم قبضته على المشهد الوطني.. ثماني سنوات بعد الثورة ومرّة أخرى يأتي شهر جانفي حاملا معه غضبه وحنقه ومخاوفه وهواجسه، يأتي بذات الشعارات التي تصدح بها حناجر آلاف المحتجين «شغل، حرية، كرامة وطنية».. «جانفي الغضب» الذي طالما غيّر مجرى الأحداث في تونس في أكثر من مرحلة ومن حقبة تاريخية، لم يخالف هذه السنة «تقاليده» وحافظ على توهّج احتجاجاته و»ثوريته».. ففي السنة الجديدة القادمة براهناتها وتحدّياتها الكبرى يأتي شهر جانفي محمّلا بمنسوب مرتفع من شعور عام بالخيبة والإحباط، ليزيد المخاوف بشأن هذه السنة التي ستشهد بداية المرحلة الثانية من عملية الانتقال الديمقراطي من خلال مواعيد واستحقاقات انتخابية حاسمة واستثنائية بعد سنوات عجاف ومرحلة دقيقة أعقبت الثورة وكانت محفوفة بكل مخاطر الانتكاسات المحتملة سواء كانت على المستوى السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو حتى على مستوى الحرّيات العامّة والفردية التي مثّلت إلى حدّ الآن أبرز مكتسبات الثورة ومنجزاتها على أرض الواقع.. ماذا تغيّر بعد سنة إضافية من عمر التحوّل الديمقراطي، ماذا جنينا من 2018 وماذا خسرنا سياسيا، حقوقيا، اجتماعيا واقتصاديا؟ صراع الرؤساء كانت سنة 2018 سنة صعبة سياسيا، سنة المعارك والخلافات الخطيرة، والجفاء وفتور العلاقات بين مختلف مكوّنات المشهد السياسي.. ولكن أخطر أزمة سياسية شهدتها البلاد في 2018 كان الخلاف المُعلن بين رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي ورئيس الحكومة يوسف الشاهد الذي أثّر بشكل واضح على أداء السلطة التنفيذية وأحدث شروخا في علاقة الرجلين وفي علاقة مؤسسات الدولة الحيوية . كما كانت سنة 2018 سنة صعبة بالنسبة لحزب نداء تونس الذي تحوّل من الحكم الى المعارضة وفقد قوّته وأغلبيته البرلمانية بعد انشقاق نوابه والتحاقهم بكتلة الائتلاف الوطني الداعمة للاستقرار الحكومة والكتلة البرلمانية لحزب يوسف الشاهد الذي لم يُعلن عنه بعد، وفي هذا السنة تحوّلت الحرب الباردة بين الشاهد وحافظ قائد السبسي إلى معركة مُعلنة حيث اتهم المدير التنفيذي لحزب نداء بأن رئيس الحكومة بالفشل وطالب بإقالته ليردّ رئيس الحكومة باتهام حافظ قائد السبسي بانه «السبب في تدمير حزب نداء تونس» تصريح وضع علاقة رئيس الحكومة برئيس الدولة على المحك وانتهى بإعلان يوسف الشاهد «تمرّده الكامل» في جلسة منح الثقة لوزرائه عندما اكّد أنه «ليس وزيرا أوّل وأنه يتصرّف من منطلق صلاحياته الدستورية كرئيس حكومة».. تحوّل مباغت في العلاقة دفع بالباجي قائد السبسي بحنكته السياسية وخبرته إلى تجنّب المواجهة ومحاولة احتواء الأزمة من خلال القبول بالتشكيلة الوزارية التي اقترحها رئيس الحكومة ومن خلال عدم تخليه عن مسألة دعم الحكومة في أزماتها الأخيرة ولا أدلّ على ذلك الاجتماع الأخير للرؤساء الثلاثة وأطراف الحكم والمنظّمات الوطنية تحت إشرافه أكبر دليل على محاولة رئيس الدولة التعايش مع تمرّد وطموح «رئيس الحكومة الشاب». المساواة في الميراث.. الاستثناء التونسي تحقّقت في 2018 مكاسب جديدة بالنسبة لواقع الحقوق والحرّيات في بلادنا بعد تمرير قانون مناهضة العنف ضدّ المرأة في فيفري الماضي وكذلك قانون مناهضة الميز العنصري، وكذلك تقديم لجنة الحرّيات الفردية والمساواة تقريرها النهائي وتبنّي رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي لمبادرة المساواة في الإرث وإحالتها إلى مجلس نواب الشعب كمبادرة تشريعية بعد مصادقة مجلس الوزراء على هذه المبادرة . كاتب دولة يبيع ذّمته مقابل ساعة «رولاكس» رغم كل الإجراءات القانونية الاستثنائية التي تم اتخاذها للتصدّي للفساد ورغم تعهّدات والتزامات رئيس الحكومة بمكافحة هذه الآفة والقضاء عليها ورغم وجود الهيئة الوطنية لمكافحة الوطنية الاّ أن كل هذه الإجراءات لم تحدّ من الظاهرة وفق التوقعات المنتظرة. ولعلّ من أبرز الأحداث التي ستبقى عالقة في الأذهان هي إقالة كاتب الدولة السابق بوزارة الطاقة هاشم الحميدي بعد تورّطه في قضية فساد وتلقيه رشوة «ساعة رولاكس» وهو ما أدى لإحالته على القضاء في حالة إيقاف.. وكشفت ساعة «الرولاكس» الأشهر في تونس عن شبكة فساد تورّط فيها مسؤولون في الدولة وأطاحت بكاتب دولة وبوزير، وتحوّلت الى قضية رأي عام شغلت الرأي العام لأسابيع في السنة المنقضية. وحول موقف التونسيين من تفشّي ظاهرة الفساد كشفت دراسة حديثة للمعهد الجمهوري الدولي (IRI) أن 17 بالمائة من التونسيين عانوا شخصيا من الفساد في المستشفيات، و13 بالمائة من فساد شرطة المرور، و8 بالمائة في المحاكم، و8 بالمائة من المدارس العمومية، و6 بالمائة في الشركات الخاصة.. وحسب نفس الدراسة يعتقد 64 من التونسيين أن المحسوبية والوساطة طريق للثراء أكثر من الذكاء والنجاح الدراسي . ولعلّ من انجازات 2018 في مكافحة الفساد هو دخول قانون التصريح بالمكاسب حيز التنفيذ والى حد يوم أمس بلغ عدد المصرّحين بالمكاسب 99285 مصرّحا في حين نجدد عدد المشمولين بالتصريح يٌفوق 300 ألف شخص. شعاره.. «سيء جدّا» في استطلاع لمؤسسة البارومتر الأفريقي (Afro Barometer)، أعرب 72 بالمائة من التونسيين عن اعتقادهم بأن الوضع الاقتصادي الراهن «سيء جدّا»، فيما قال 80 بالمائة إنهم يشعرون أن تونس ضلّت طريقها.. وفي الاستطلاع الأخير لمعهد «امرود كونسلتينغ» ومؤسسة «دار الصباح» رأى 70 بالمائة من المستجوبين أن الأوضاع الاقتصادية بصدد التدهور . وصعوبة الأوضاع الاقتصادية انعكست سلبا على الوضع الاجتماعي، وإلى تنامي الاحتجاجات والرفض للسياسات العامّة ولما ورد في قانون المالية من إجراءات يرى عموم التونسيين أنها ستعقّد وضعهم الاجتماعي والاقتصادي وستعمّق تدهور المقدرة الشرائية. العائدون من بؤر التوتّر.. نقطة استفهام «دائمة» تونس كغيرها من دول المنطقة ما زالت تواجه مخاطر محدقة تقف وراءها أسباب موضوعية منها مسألة «الجهاديين» العائدين دون برامج واضحة لإعادة تأهيلهم وإدماجهم، إلى جانب عدم تفعيل الإستراتيجية الوطنية لمناهضة التطرّف العنيف بشكل يرتّب نتائج وآثارا واضحة في تفكيك ظاهرة التطرّف ومقاومتها .. ورغم أن تونس قبلت تسلّم عدد من الإرهابيين الحاملين للجنسية التونسية من مختلف دول العالم، ورغم أن عددا من المقاتلين في سوريا والعراق وبعد انحسار نفوذ تنظيم «داعش» ومحاصرته عادوا بدورهم متسللين إلى البلاد، إلا أن هذا الملف ما يزال الجميع يحاول تفاديه وعدم التطرّق إليه أمام الرأي العام وحصره في الجانب الأمني، الاستخباراتي بمعزل عن الجانب الاجتماعي . «الثورية» لا تحجب الإخفاقات فشلت الأحزاب الحاكمة سواء من خلال حكومة الوحدة الوطنية أو حكومة الائتلاف في إيجاد حلول لأغلب الأزمات، وهذا الفشل والإخفاق يعود بالأساس إلى الأزمات الداخلية التي غرقت فيها هذه الأحزاب وانعكست سلبا على واقع البلاد، ورغم الخطابات الثورية لقيادات الأحزاب الحاكمة والمعارضة على حدّ سواء إلا أن الواقع التونسي المعاش ما يزال يراوح مكانه.. واقع «شبه ديكتاتوري» بنكهة «ديمقراطية».