«الاستيلاء» على أعمال فنية لآخرين والتصرف فيها ونسبتها لأنفسهم وإعادة استثمارها لفائدته دون أدنى مجهود لتقديم أعمال خاصة أو إنتاجات جديدة وتعالي صيحات الفزع «لضحايا» هذه العمليات من المسائل الإشكالية التي ما انفكت تسجل في الأوساط الثقافية بشكل عام في المدة الأخيرة أكثر من أي وقت مضى، رغم أنها ليست ظاهرة جديدة أو دخيلة ومرتبطة بهذه المرحلة دون سواها. ولكن عدة عوامل ساهمت في «فضح» كل عملية أبرزها سرعة انتشار المعلومة وتطور تكنولوجيات الاتصال وشبكات التواصل الاجتماعي وغيرها من التقنيات التي تجعل الخبر والمعلومة تنتشر في لحظات. خاصة أن هذا المنحى أصبح قبلة أعداد كبيرة من الأسماء الرائجة في الساحة الفنية باعتبارها طريقا سهلا للعمل دون تكاليف ومجهودات انتاج خاصة فضلا عما تحظى به أغلب «المادة الفينة» التي يصنفها أصحابها في خانة المسروق» من شهرة وانتشار على نطاق واسع. ولعل الاستثناء في مثل هذه الحالات أن بعض الاعمال التي أثارت ضجة من نفس السياق لم يكن اللجوء لها بهدف السرقة أو ما شبه ذلك وإنما لأسباب فنية إبداعية وتم تدارك الأمر بمجرد إثارة المشكل. فعبارات من قبيل «أخذوا صوري واستعملوها دون استشارتي..» و«سجلت أغنيتي بصوتها دون استشارتي ولا أعرف اسمها..» و»سرق مجهودي وأعمال مسيرة سنوات وأصبح نجما في الساحة الغنائية بفضلها دون أن يتصل بي أو يستشرني ولا أعرف هل هناك جهة أخرى يمكن أن تنصفني بغض النظر عن القضاء..» هذه أمثلة أو عينة مما تداولته وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية والمسموعة أو تناقلته شبكات التواصل الاجتماعي بطريقة جعلت هذه الظاهرة تتحول إلى إشكال قائم في الأوساط الثقافية خلال هذه المدة لعل آخرها صيحة فزع التي أطلقها المصور الفوتغرافي عبد الفتاح بلعيد احتجاجا على استعمال عدد من صوره في معرض «14 غير درج» الذي يحتضنه المتحف الوطني بباردو دون أن تتم استشارته في الأمر من أي طرف من الجهات المشاركة في تنظيم هذا المعرض الذي يؤرخ للثورة التونسية. فضلا عن تشكي الناصر صمود من إحدى الفنانات التي أطلت مؤخرا في إحدى القنوات التلفزية بأداء أغنية «محبوبي» التي لحنها منذ سنوات دون سابق إعلام في الأمر ودون أن تنسب العمل لصاحبه الأصلي. كما هو الشأن بالنسبة لقضية الفنان صالح الفرزيط والفنان الصاعد فهمي الرياحي المطروحة اليوم على أنظار القضاء وذلك بعد أن رفع الأول قضية ضد هذا الأخير بداعي «سرقة» جانب من رصيده الفني والاستحواذه عليه والتصرف فيه واستثماره في عمله وعروضه دون استشارته. في نفس السياق أثارت قضية مسرحية «القادمون» التي أخرجها وكتب نصها المسرحي سامي النصري وأنتجها مركز الفنون الدرامية والركحية بالكاف في احتفاله بخمسينيته، جدلا كبيرا في الساحة الثقافية وذلك بعد احتجاج الكاتب عزالدين المدني عن صاحب هذا العمل باعتبار أن هذه المسرحية التي قدمت مؤخرا مأخوذة عن فكرة لمسرحية «ديوان الزنج» التي كتب نصها هذا الأديب وأخرجها المسرحي الراحل المنصف السويسي ونفذها مع الفرقة المسرحية بالكاف في سنوات تأسيسها الأولى. ولعل من بين المسائل المشابهة ما تعرض له الموسيقي شكري بوديدح منذ مدة قصيرة وكانت الصباح قد نشرت تفاصيلها وتتمثل في سرقة ملحن مصري لمقطوعته الموسيقية المعروفة «ريتاج» وتقديمها كأغنية لفنان مصري آخر وتداول الأغنية على «اليوتوب» ولكن وبعد أن رفع الموسيقي التونسي الأمر للقضاء باعتبارها مسجلة باسمه في المؤسسة الوطنية لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة منذ عدة سنوات ،وتدخل نقابتي الموسيقي بكل من مصر وتونس تم حذف الأغنية المنتسبة لمحلن وفنان مصريين من «اليوتيوب»بعد أن تبيّنت جميع الجهات من ملكية الموسيقي التونسي لهذه المقطوعة التي لحنها منذ سنوات وتحصل من خلالها على جائزة عالمية سنة 2014 في مسابقة دولية انتظمت بروسيا. والقائمة تطول لحوادث وقضايا مسجلة في الحقل الثقافي في مجالات الفن وفي الشعر والأدب والمسرح وغيرها من مجالات الإبداع الأخرى خاصة أن عددا كبيرا من هؤلاء يجهلون آليات التعاطي القانوني لاسترجاع الحقوق لاسيما في ظل الحملات التي ما انفكت تقوم بها المؤسسة الوطنية لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة في الغرض في السنوات الأخيرة في محاولة لتوسيع قاعدة منظوريها من المنخرطين وللتعريف بمزاياها ودورها في حماية حقوق المبدعين. القضاء هو وحده المنصف في نفس السياق أكد يوسف بن إبراهيم أن هناك نصا قانونيا ينظم هذه المسألة وهو النص عدد 36 لسنة 1986 المنقح سنة 2009 والمتعلق بالملكية الأدبية والفنية باعتباره نصا يحمي حقوق أصحاب الأعمال من مؤلفين وأصحاب الحقوق المجاورة. وتجدر الإشارة إلى أن أصحاب الحقوق المجاورة تعني الفئة التي تشمل المؤدين والمطربين والراقصين والممثلين، لأن أصحاب الحقوق الأدبية والفنية هم فقط الكتاب والملحنون وهو التصنيف الذي تعتمده هذه المؤسسة المختصة في منظومتها القانونية التي لا تختلف عن القوانين المعتمدة لدى هيئات أغلب البلدان في العالم على غرار أغلب البلدان الأوروبية، وفق ما أكده يوسف بن إبراهيم ل «الصباح». لذلك فإن ما يطالعنا من احتجاج بعض الفنانين بالأساس على استغلال أسماء أخرى لنفس الأغاني وتبرير ذلك بأنهم أصحاب هذه الأعمال لأنهم هم أول من غناها، لا يعد ذريعة لمنعهم من ذلك، حسب تقدير مدير عام المؤسسة الوطنية لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة، من وجهة نظر قانونية، لأن هذا الأخير أي الفنان لا يملك حق التصرف في ذلك ومسألة التنازل عن العمل والموافقة على إعادة استغلاله من حق كاتب أو ملحن العمل دون سواهما. ثم أن عددا كبيرا من هؤلاء، الفنانين حسب تأكيده، ليس لهم عقد ملكية لتلك الأغاني أو الأعمال الفنية. وجدد نفس المتحدث تأكيده على أن القضاء هو الجهة التي تبت في مثل هذه النزاعات خاصة أن هناك عديد الأمثلة لقضايا مشابهة حسم فيها القضاء أبرزها قضية منصف ذويب والأمين النهدي حول مسرحية «في هاك السردوك نريشو». لكن المثير في مثل هذه المسائل هو استغلال بعض الفنانين للغموض «القانوني» في مثل هذه الوضعيات وسعي البعض للتخفي وراء ذلك لاستغلال والتعدي على أعمال الآخرين دون موجب حق وهي بالأساس اعتداءات أدبية ومعنوية أكثر منها قانونية مما يخلف استياء في أحايين كثيرة تحول إلى تبادل وتراشق بالاتهامات على مرأى ومسمع من الجميع وتضارب للمواقف والتبريرات. والخاسر الكبير في مثل هذه الحالات هو الساحة الثقافية بشكل خاص مما يضع مصداقية المبدعين والمنتمين للقطاعات الفنية والثقافية في الميزان، لاسيما أنها مظاهر وعمليات تتزامن مع ما يمر به المشهد الثقافي من «هزّات» ومحاولات لإيجاد سبل تموضع أفضل وأنجع.