تونس الصباح: حين نقول للزمن توقف لبرهة من الوقت فأنت لا تستطيع أن تمحو كل شي من أوراق الذاكرة, حين تفوح رائحة زهرة ياسمين دفنت بين صفحات كتاب لتذكرنا بأنها لم تجف بعد وحين تكون الكلمات والصور أقوى من النسيان وحاضرة رغم الغياب... هو الحاضر رغم الغياب, لمدة ساعة من الزمن قلنا درويش سيبقى خالدا ولن يمحوه النسيان. هكذا اختارت أيام قرطاج السينمائية أن تكرم فلسطين أن تجدد التزامها بالقضية... على الساعة الثالثة بعد الظهر من يوم الاحد تم عرض الفيلم الوثائقي "محمود درويش الارض كلفة" لسيمون بيتون فرنسا ولمدة تسع وخمسين دقيقة امتزجت فيها الصور بالكلمات فلم نعد نعرف هل أن الكاميرا تصور أو تكتب درويش؟ هل تكتب قصة شاعر لم يكن يوما مسافرا فكان أو قصة وطن لم يكن يوما حقيبة فأصبح؟ من هنا تبدأ عبثية الرحلة في المطار يبدأ التصوير كأن الكاميرا تذكر درويش بان الرحلة لم تبتدئ وإن الدرب لم ينته بعد, تنساب موسيقى مرسال خليفة ويقرأ درويش بعضا من أشعاره: "إلى أين تأخذني يا أبي؟ إلى جهة الريح يا ولدي لماذا تركت الحصان وحيدا يا أبي؟ ليؤنس البيت يا ولدي" تعود الكاميرا دونه إلى حيث النشأة الاولى إلى "البروة" إلى حيث نشأ إلى حيث كانت البئر وشجرة التوت إلى حيث الميلاد "عندما كنت صغيرا... كانت الوردة داري... والعصافير إزاري..." بين لبنان وحيفا والقاهرة وباريس وتونس وغيرها من المدن حمل درويش وطنه ومنفاه و"بقايا الارض في جسد العروبة" بين هذه المدن تتجول الكاميرا وتلاحق طيف رجل مر من هنا وكان شعره صوتا قويا يخترق أصوات الانفجارت والقنابل جرحا ينزف ومزال بعد. ومضات ورائية تحاول أن تختزل قصة شاعر الوطن والقضية تتخللها بعض من قصائده واشعاره من كلماته التي ترسم فلسطين الام والحبيبة الوطن والمنفى. يغني مارسال لخبز أمه وقهوتها لضفائر ريتا ويرتفع صوت اميمة الخليل منشدا "تكبر تكبر فمهما يكن من جفاك ستبقى بعيني ولحمي ملاك وتبقى كما شاء لي حبنا أن أراك". ساعة من الزمن خلنا فيها أن درويش حاضر بيننا وأنه يقف على خشبة المسرح البلدي ليقول لتونس "سنلتقي غدا على أرض أختك فلسطين" وحيدا عاش يحمل حقيبة فيها آلام الوطن وأحلامه علبة للسجائر قلما ودفترا يفرغ عليه أوجاع العروبة وأحزانها السرية "ولكن السماء بعيدة عن أهلها وانا بعيد كلامي" بهذه الكلمات ختم شريط سيمون بيتون الامضاء لم يكن عربيا ولكنه كان يقول بلغة الضاد "خذ غدي عني وهات الامس واتركنا معا فلا شيء بعدك سوف يرحل أو يعود..."