بعد هجمة شرسة للمسلسلات المكسيكية انطلقت بحكاية «راكيل وانطونيو» وتبعتها قصص مماثلة ل«آنا كريستينا» و«آليخاندرو» و«كاساندرا» و«ماريامرسيدس» و«ماريانا» انطفأ بريق تلك الاعمال مقابل بزوغ شمس المسلسلات التركية وبدرجة اقل الأعمال الكورية. وقد يعود سبب فتور الحماسة للدراما المكسيكية الى اقتناع المشاهد العربي اخيرا بالتباين الثقافي و«العاداتي» بين المجتمعين العربي والمكسيكي والى دوران تلك الاعمال مجتمعة في فلك قصة واحدة عادة ما تكون بطلتها اما خادمة او فتاة جميلة جدا لكن معدمة يقع في غرامها بطل غالبا ما يكون من وسط اجتماعي مرموق وتوشح تلك القصة الطويلة والمملة بسلسلة انتقامات وعلاقات مغرضة وثأر ودموع اي انها لا يمكن ان تفيد المشاهد في شيء فقط لانها تغوص في مشاكل مجتمع غريب عنه ثقافيا وحضاريا وعقائديا واجتماعيا.. وهذه الفكرة تكرّسها مقولة بليغة لأحد الحكماء هي «أن طعام الغريب لا يشبع وأن الاثواب المستعارة تظل تفتقر الى الدفء». «تسونامي» تركي يمكن القول أن نكوص المتلقي العربي عن متابعة الاعمال المكسيكية جعل المسؤولين عن البرامج في القنوات العربية يبحثون عن آفاق جديدة لاستقطاب المشاهد فاختاروا ان يسقطوا من اجندتهم ثقافة امريكا الجنوبية وان يولوا وجهتهم قبلة مجتمع ظاهره اوروبي وجوهره شرقي اي المجتمع التركي الذي اصبح المتفرج العربي وفي زمن قصير يعرف انه كل شيء تقريبا بفضل سيل الاعمال التي عرضت وتعرض في العديد من الفضائيات العربية لا سيما منها فضائياتنا («نور» على تونس 21 و«اكليل الورد» على تونس 7) والتي استطاع ابطالها على غرار «نور ومهند» (نور) و«يحيى ولميس» (سنوات الضياع) و«رجاء وليلى» (لحظة وداع) و«فرح وأمجد» (اكليل الورد» ان يمحو من ذاكرة ووجدان المشاهد ما علق بهما من اسماء الابطال المكسيكيين. ويكمن سر الوصفة التركية التي اضحت تلقى رواجا منقطع النظير في اوساط المشاهدين في عاملين اساسيين: العامل الاول يعود للدور الذي تلعبه «ماكينة» التقليد وركوب الموجة السائدة في تعميم هذه الاعمال على الفضائيات... بعض القنوات ادركت ان السابقة التي اقدمت عليها قناة ال«آم-بي-سي» بعرض المسلسلات التركية ونجاحها في استقطاب شق كبير من المتابعين فسح المجال امام قنوات اخرى للسير على خطاها وهكذا انتقل «فيروس» الدراما التركية من محطة الى اخرى وباتت هذه الاعمال تحاصر المشاهد العربي كلما ضغط على زر آلة التحكم وفرضت عليه واقعا لم يعد قادرا على الفكاك منه. العامل الثاني هو ان الاعمال التركية تغوص في عمق مجتمع غربي لم يستطع رغم تطوره وحداثته التملص من ثوابته الشرقية فيما يتعلق بالعادات فرأى المشاهد العربي فيها مجتمعه وعكس من خلالها ذاته فالتقاليد هي نفسها والمحظورات تكاد تكون متشابهة ولعل ما زاد في تقريب هذه الاعمال المختلفة المضامين الى وجدان المتفرج هو دبلجتها الى اللهجة السورية بما قد يوحي للمتابع ان احداث هذا المسلسل او ذاك تدور ضمن مجتمع عربي صميم. هل نستفيد؟ قنواتنا اذن سارت في ركاب موضة الاعمال التركية بان منحتها فرصة البث على جدول برامجها ولكن هل فعلت ذلك فقط لمجرد التقليد؟ ما نتمناه هو ان يكون الجواب بالنفي لان وراء قصص الحب والهيام والعذابات رسالات لا بد ان ننتبه اليها.. فلدى الأتراك ما نتعلمه وما قد يفيدنا مستقبلا في التعاطي مع الاعمال الدرامية كبوابة للتنمية والاستثمار والانتفاع.. ما يمكن أن يفيدنا يتجاوز نطاق الحكايا المثارة في تلك الاعمال ويمكن الاستدلال على ذلك بنموذج مسلسل «نور» الذي نجح رغم بداية عالجت مشاكل قد تصادف الواحد منا في مشوار حياته ونهاية غلب عليها التهميش والتمطيط الممل في تدعيم المنظومة السياحية التركية فمنذ ان عُرض المسلسل والسيّاح العرب يتدفقون على تركيا بشكل مثير للانتباه حتى ان القصر الذي احتضن احداث العمل بات مرارا يفتح في وجه الوافدين عليه بمقابل.. بالاضافة الى ان الصور التي ركزت عليها الكاميرا طوال المسلسل للمناظر الطبيعية في انحاء متفرقة من المدن التركية عززت من رغبة المشاهد في معاينة تلك البقاع عن قرب واججت الرغبة في نفوس الكثيرين لزيارة تركيا.. وهذا ما جعل الدوائر المسؤولة عن الثقافة في الحكومة التركية تطلق خطة لدعم ثقاقة الدراما بعد ان ادركت اهميتها في مساندة اقتصاد البلاد. جانب آخر تفيد في المشروع التركي يعلمنا كيف يبني الاتراك ديكورات اماكن التصوير بما تحمله من اكسسوارات وخصائص الزخرفة المزركشة والبراقة اللافتة للنظر بما يضفي على العمل برمته جرعة اضافية من الجمالية والسحر يسرقان الألباب. يمكن ان نستفيد من اشياء كثيرة بل من كل شيء حتى ندعم الدراما الوطنية التي عرفت هذا الموسم انتعاشة ملفتة على مستوى المضامين والطروحات.