تونس/الصباح عاش جمهور مهرجان قرطاج سهرة أول أمس مع الموسيقى التراثية الأصيلة والأداء السليم والتمكن الفني وذلك من خلال رحلتين موسيقيتين سافرتا بنا الى الذاكرة الموسيقية التونسية من جهة والى بغداد ومقامها العراقي الشهير. السهرة انطلقت في حدود العاشرة وربع مساء مع الفنان التونسي زياد غرسة الذي أطرب الجمهور بتمكنه من الاداء وهضمه المتجدد لنوعية الموسيقى التي اصبح من اهم المختصين فيها مشتغلا بروح ونبرة جديدتين على اللهجة الموسيقية التونسية وجامعا في شكل كوكتال متواصل شذرات من الموسيقى التونسية الاصيلة. وكما هو معروف فان زياد غرسة يدير اليوم فرقة الرشيدية الحافظة للتراث الموسيقي التونسي ولعل الطريف في هذه المسألة هو أن يتولى الحفاظ على التراث شاب تربى على الموروث الموسيقي الشيء الذي يضمن ادارة شابة وواعية. ولقد دامت وصلة زياد غرسة قرابة الساعة انتهت بالتصفيق الحار، لانه أثبت من جديد انه قيمة لاغبار عليها في مجاله. الجزء الثاني من السهرة تولى تأمينه محترف المقام العراقي الفنان حسين الأعظمي. وقبل صعوده ركح مسرح قرطاج قام فنانان عراقيات واحد على المزمار والاخر على الصبل بتقديم تحية الى الجمهور التونسي دامت دقائق وكانت مدخلا طريفا للسفر الى مذاق اخر من الموسيقات العربية الاصيلة. يتضمن الفن الذي قدمه الفنان حسين الأعظمي على قصائد غزلية تتغنى بالجمال والجسد الفاتن وترافقها موسيقى تحمل في جملها الموسيقية اصداء نهري دجلة والفرات، ذلك انها مائية التدفق ومنسابة بشكل يرمز الى الآرتواء. فهي موسيقى تصنع الطرب دون تخمر ويزيدها صوت حسين الأعظمي القوي والواثق نكهة خاصة تذكرنا في عديد المقاطع بحضور الراحل ناظم الغزالي. والمعروف ان الفنان حسين الاعظمي من الفنانين الذين احترفوا بشكل متميز المقام العراقي وهو ينحدر من عائلة فنية مارست وتمارس الغناء ابا عن جد في الاعظمية ببغداد ذلك الحي الذي اصبح اليوم لا نسمع عنه سوى اخبار القتلى والجرحى والتفجيرات المرعبة. وقد اعتلى حسين الاعظمي لاول مرة خشبة المسرح عام 1973 وانتمى الى فرقة التراث العراقي الذي اسسها المرحوم منير بشير رائد العزف المنفود. واهتم بتدريس المقام العراقي ونظريات الموسيقى. وفي الحقيقة الفقرة الموسيقية التي قدمها حسين الاعظمي ليلة اول امس اثبتت جدارة الرجل في اداء المقام العراقي خصوصا وان صوته قوي ويمتلك طاقة كبيرة ويمتد لمساحة جيدة من القرارات والجوابات في نفس الوقت، اضافة الى ان نشأته في بيت موسيقي يردد فيه المقام العراقي جعله متمرسا في اداء ما يسمى بالملمح التراثي وهو ما يثبته اداؤه الهادئ بالخصوص. لذلك يمكن القول ان سهرة اول امس والتي جمعت شابا مخلصا للموسيقى التونسية الاصيلة وبارعا في عشقها وايضا تجربة ناضجة زمنيا لصاحبها حسين الأعظمي، كأنها سهرة مع سلالتين فنيتين عريقتين نقطة قوتهما تتركز في مسألتين: الاولى تكمن في طبيعة الموسيقى المغناة والثانية في قوة الاداء وحسنه في وقت اصبح فيه الاداء السليم مطلبا عسير المنال. أين الاجتهاد في تصور العرض؟ طبعا لا شك في ان توقيت السهرة لم يكن موفقا حيث انطلقت في وقت متأخر وانتهت كذلك ونعتقد انه كان بالامكان مراجعة موعد انطلاق السهرة خاصة انها ليست في نهاية الاسبوع الشيء الذي يجعل الكثير يجدون صعوبة في مواصلة السهرة الى وقت متأخر. من جهة اخرى ايضا نعتقد انه كان بوسع كفاءتين موسيقيتين من أمثال حسين الأعظمي وزياد غرسة ان يفكرا في سهرة انشاد تمزج الموسيقتين بشكل ابداعي وموظف، أي نسافر معها الى رحلة موسيقية واحدة مطلة على الانشاد بعيدا عن الحدود، ويظهر فيها الاجتهاد الخاص بالسهرة، عوضا عن سهرتين منفصلتين في سهرة واحدة.