هناك من شكّك في أعمالي دون أن يطّلع عليها هو كاتب وناقد وأستاذ تعليم عالي سجلت تحت إشرافه 18 أطروحة دكتوراه دولة نوقش أغلبها. سمي في أفريل 2008 أستاذا متميزا PROFESSEUR EMERITE بالجامعة التونسية من مؤلفاته في الابداع مجموعة قصصية بعنوان "نوافذ" وثلاث روايات هي "المعجزة" و"دنيا" و"التمثال" أثنى أغلب من كتبوا عنها على إيقاع اللغة فيها وعلى شاعرية الصورة وعمق الشخصيات ودقة ووضوح منطلقات الأحداث ومتانة ترابطها ببعضها البعض كما نال الجانب العجائبي الذي تميزت به رواية "المعجزة" استحسان النقاد والدارسين الى جانب إسهاماته التي طبعت مسيرة نقد الأدب التونسي والعربي مما جعله أحد أهم الوجوه الثقافية والجامعية في تونس. مارس الكتابة منذ الستينات فكانت بالنسبة إليه معاناة ذاتية وحياتية ولغوية وأدبية ومما زاد من صعوبة تعاطيه لهذا الفن الراقي- أي كتابة الرواية- إصراره على الفصل بين شخصية الباحث : الناقد وشخصية الكاتب ورغبته في ان يبدع متجاوزا هاجس البحث الذي كان يسكنه والذي كان يتحاشى ان يؤثر عليه حتى لا يكتب أدب العلماء الذي يعتبره أردأ أنواع الأدب (والشاذ يحفظ ولا يقاس عليه). لنتحدث عن معاناة الكتابة وهاجس البحث وعن المرأة في كتابات محمود طرشونة والنخبة التي يتوجه إليها برواياته وتذمر المبدعين من لجان التحكيم ورميهم بالتحيز والمحاباة التقيناه وأجرينا معه الحديث التالي: حوار: علياء بن نحيلة * ما رأيك في كتابة الناقد للرواية... وهل من السهل التخلص من سلطة الناقد...؟ - الكاتب الروائي - أو الشاعر - يحتاج إلى أدوات يمارس بها الصنعة الروائية بشرط توفر ملكة الكتابة عنده والرغبة في إنشاء نصوص روائية، وقد توجد هذه الملكة عند مدرّس الأدب والباحث والمهندس والطبيب والتاجر والفلاح على حد سواء وحتى عند من انقطع عن الدراسة في منتصف الطريق أو تحول إلى أنشطة أخرى غير أدبية. فهؤلاء جميعا يقبلون على الكتابة بنفس الروح ونفس الرغبة في الإبداع. إلاّ أنّ الناقد يتميّز عنهم جميعا بالوعي ببعض الضوابط الفنيّة التي تقيه الوقوع في أخطاء قاتلة أحيانا للإبداع، فوعيه يحميه فقط ممّا لا يسلم منه المقبل على كتابة الرواية خالي الذهن من بعض مقوّماتها. والحق أنه ليس للناقد أيّ سلطة على غيره من المبدعين فكيف تكون له سلطة على إبداعه الشخصي والحال أن الإبداع لا يكون إلاّ حرّا، لا يخضع إلى أيّ قيد سواء كان فكريا أم ايديولوجيا أم نقديا نظريّا. إنما خضوعه الوحيد هو لإلهامه وخياله وصوره ومواجده وكذلك للغة وإيقاعها وسلامتها. ثم كيف نخشى على الروائي الناقد سطوة تكوينه النقدي وتنظيره وحذقه للغة ولا نخشى على الروائي المهندس أو الروائي الطبيب أو الروائي المحامي سطوة بضاعته التقنية ولغته الاصطلاحية، هذا نخشاه فقط على من لا تتوفّر عنده الملكة الروائية فيتصنع الكتابة لغايات غير فنيّة. * أنت مثلا كتبت الروايات وأنت ناقد مشهور ويقرأ لك ألف حساب كيف تقبلت الساحة رواياتك؟ ... ميلي الى السرد سبق النقد - لو اطّلعت على مسيرتي الأدبية للاحظت أني شرعت في الكتابة القصصية منذ الستينات أي قبل أن أتخصص في نقد الأدب والبحث في الأدب المقارن إذ نشرت جملة من القصص القصيرة من 1963 إلى 1977 تاريخ نشر مجموعتي "نوافذ". فالميل إلى السرد قصة ورواية سابق عندي لكلّ نشاط نقدي وجامعي. وقد انقطعت عنه مدّة سنوات ثم استأنفته بإصدار ثلاث روايات على التوالي: دنيا (1993) والمعجزة (1996) والتمثال (1999) والبقية تأتي. لا علاقة لي بأغلب من كتبوا عني وفي الأثناء تضخم زادي اللغوي والثقافي وتعمقت تجربتي الحياتية، فكان نشر تلك الروايات أمرا طبيعيا يندرج في منطق التطور الطبيعي فلم تفاجأ بها الساحة الأدبية في تونس وفي البلاد العربية بل تقبّلتها بطريقة إيجابية جدّا فكتب عنها ما لا يقلّ عن سبعين مقالا فضلا عمّا لم يصلني من دراسات. إلاّ أنّ بعض الأفراد الذين لا أعرف كيف أنعتهم انطلقوا من أفكار مسبقة وشكّكوا في تلك الأعمال دون أن يطلعوا عليها. أعيد: دون أن يطلعوا عليها، وقالوا إنّ كلّ تلك الكتابات نتيجة مجاملات أصدقائه وطلبته. والواقع أن بعض من كتبها لا تربطني به أي صلة مثل نقاد في المغرب والجزائر ومصر وسوريا والعراق، بل فيهم ثلاثة وزراء ثقافة على الأقل ليس فيهم واحد من طلبتي وهم محمود المسعدي ومحمد اليعلاوي والبشير بن سلامة، وعدد من العمداء والأساتذة الجامعيين القدامى والصحفيين والصحفيات الذين لم ألتق بهم مرّة واحدة في كلية الآداب. وقد ترجمت بعض نصوصي إلى الاسبانية وهي تترجم الآن إلى الفرنسية والإيطالية فإن لم يجد فيها كلّ هؤلاء قيمة ثابتة لما التفتوا إليها، ولو وجدوا فيها بصمات الناقد والباحث الجامعي طاغية على تلقائية الإبداع وملكة الكتابة لأهملوها كما أهملوا مئات النصوص غيرها. * ما الذي توفر في رواياتك ولرواياتك لتكون متنا لبحوث جامعية عديدة في تونس وخارجها؟ - هذا السؤال في الحقيقة لست مؤهلا للإجابة عنه لأن الحديث عن خصائص رواياتي ليس من مشمولاتي بل من مشمولات الدارسين والنقاد والصحافيين الثقافيين. وقد فعلوا ذلك على أحسن وجه وركزوا على إيقاع اللغة وشاعرية الصورة وعمق الشخصيات ومنطق الأحداث وعلى الجانب العجائبي والصدق الفني وعلى التعبير عن المواجد والمواقف وعلى البعد الثقافي والتراثي وغير ذلك من الاستنتجات التي فاجأتني وأسعدتني. وقد جمع بعضها في كتاب بعنوان " عالم محمود طرشونة القصصي والروائي " صدر سنة 1998، نشر بعده عدد من الدراسات الجادة يمكن أن تكون مادة كتابين آخرين على الأقلّ. * كيف تمكنت من تجنب المحاكاة و التخلص من مخلفات أو ترسبات تعمقك في دراسة أدب محمود المسعدي؟ - أمّا المحاكاة فلا سبيل إليها. وكلّ من يحاكي غيره أو يستلهم طريقته في الكتابة يفشل فشلا ذريعا. وقد قرأنا نصوصا كثيرة يعلن أصحابها أنهم يسيرون في مسلك هذا الكتاب أو ذاك. والمسعدي نفسه لا يرضى أن يحاكيه أحد. ونصيحته إلى الناشئين من الكتّاب شهيرة جدّا:" كُنْ أنت، أصْفى ما تكون من غيرك، وانْفرد واحتكّ بمغامرة وجودك، (انظر الجزء الثالث من أعماله الكاملة، ص 422). أمّا التخلص من ترسبات دراستي أدب المسعدي فلا سبيل إليه أيضا لأنّ أيّ كاتب هو خلاصة تجاربه في الحياة وسعيه إلى خصوصيته لا محالة، ولكن كتابته نتاج ما استوعبه من قراءات وثقافات وأساليب أيضا. فالمسعدي نفسه له أسلوبه الخاص ولغته الخاصة ولكن لا يمكن ألاّ نتذكّر عند قراءة نصوصه أثر القرآن والغزالي والمعري والتوحيدي والأصفهاني ونيتشة وقوت وألبار كامو وغيرهم. ولا يوجد إطلاقا كاتب أو شاعر واحد قد خلت كتابته ممّا استوعبه وهضمه هضما جيّدا من أدب السابقين له. وعلم التناص وكذلك الأدب المقارن من شأنهما تتبّع تلك البصمات. وبقدر طغيانها تتقلص خصوصية الكاتب، وبقدر ضمورها تبرز شخصيته الأدبية. ومثلما يوجد في رواياتي أثر المسعدي يوجد أيضا أثر كلّ ما قرأت من نصوص نجيب محفوظ وجمال الغيطاني وصنع الله ابراهيم والبشير خريف وأندري جيد وجان بول سارتر وجاك بريفار وغيرهم فضلا عن التراث الصوفي وألف ليلة وليلة والمقامات والموشحات وغيرها. ... لم أفكر في تأكيد الحضور أو في الفتوحات * قيل ان بطل روايتك الأخيرة التمثال كان وبلا منازع "المكان" فهل قصدت وضع بصمتك وتأكيد حضورك في فتوحات الرواية الجديدة أم ان البعد الرمزي والصدق الفني وحدهما حكما ذلك الاختيار؟ - الكاتب الأصيل بصفة عامة لا يقصد شيئا من هذا قبل الشروع في الكتابة ولو فعل لكان متصنعا ومتطفلا على الكتابة الروائية، بل هو يكتب فقط في لحظة الإبداع ولا يفكّر في تأكيد حضور أو في فتوحات أو غير ذلك. ثم إن الكاتب مرة أخرى غير مؤهل أن يحكم على نفسه وليس مُطالبا بتقديم مفاتيح لقراءة نصوصه. ولو فعل لأغلق باب الاجتهاد فيها وقتلها. إنما النصوص تعبّر عن ذاتها فيقرؤها الغير ويتفاعل معها بحسب مؤهلاته من جهة وبحسب شحنتها الوجدانية والفنية والثقافية. وإن شئت مزيدا من التفاصيل بخصوص روايتي "التمثال" فيمكن العودة إلى الدراسات التي كتبها عنها كل من كمال الرياحي وفاطمة الأخضر والمرحوم شعبان بن بوبكر وغيرهم. ... ما الحكم الصحيح إلا للذوق * تتميز رواياتك بشاعرية اللغة والإيحاء و الإيقاع والرمز كما أنها تنفتح على بقية الفنون فأين تضع الرواية التي لا تتوفر على مثل هذه الخصائص باعتبارك ناقدا؟ يمكن ان تتوفر كل رواية على خصائص تميزها عن غيرها غير ما ذكرت فتكون في منتهى الجودة معنى ذلك انه لا توجد ضوابط وشروط للرواية تضمن نجاحها. الفن أعقد من هذا بكثير، إذ لكل نص سحره وسره وشخصيته، وما الحكم الصحيح إلا للذوق. قد توجد في رواية ما كل ما ذكرت من خصائص وما لم تذكري ويبذل فيها كاتبها أقصى الجهد ويستلهم كبار الروائيين في العالم ومع ذلك يكون نصه فاترا خاليا من توهج الإبداع وسحر الفن. والأمر ذاته ينطبق على الشعر وعلى كل فن من الفنون. وبالعكس من ذلك قد تخلو رواية ما من كل ما ذكرت وما لم تذكري من خصائص يكتبها صاحبها دون ان يفكر في محاكاة أو حتى استلهام مخزونه من الروايات ومع ذلك تلقى نجاحا منقطع النظير .مثلا ما الذي يميز رواية مثل "الخيميائي" لكولّو حتى تطبع في ملايين النسخ وتترجم الى عشرات اللغات ؟ ولو حاكاها محاك لفشل فشلا ذريعا . البعد الثقافي ضروري لكنه ليس مقصدا * يرى البعض ان رواياتك تخاطب قارئا مثقفا - من النخبة- وان المرأة فيها مثقفة وواعية لا تحفل بجسدها فهل هذه هي المرأة التونسية أم انه الوضع الذي تتمناه لها انت؟ - البعد الثقافي في كل عمل فني ضروري ولكنه ليس مقصدا رئيسيا ولا يراد منه بالخصوص مخاطبة نخبة ما. فإذا أريد له ذلك حاد عن وجهته الفنية. ولا يصح القول ان المرأة في رواياتي"لا تحفل بجسدها" هي فعلا مثقفة وواعية ولكنها أنثى لا تنكر أنوثتها ولا تقمعها بل تحفل بها الى درجة تمني عودة الحياة الى تمثال المرمر، فتنفخ فيه من رغبتها وشهواتها الى ان تسري الحياة في جموده فيسعدها أياما وليالي تشعر بعدها بالترمل لفقدانه. ولا تقل مريم في "المعجزة" احتفالا بجسدها إذ تنظّر في أحد الفصول للمتعة الكاملة، الحسية والوجدانية. ولا يمكن تعميم أي من الصفات على المرأة التونسية لأن المجتمع التونسي اليوم يزخر بالمتناقضات, ويعج بأمثال نورة وأمينة ومريم في تعلقهن بحقهن في الحياة الكاملة كما يعج بالتقيات الزاهدات العفيفات المحرومات بل المكبوتات. وهؤلاء لهن كتابهن. * ما رأيك في الرواية النسائية في تونس؟ - الرواية النسائية في تونس خصصت لنقدها كتابا نشرته سنة 2004 عن مركز النشر الجامعي وحللت فيه جميع الروايات النسائية الصادرة الى تاريخ التأليف. وقد بينت في مقدمته وفي خاتمته أن لا فرق بين الرواية التي تكتبها المرأة والرواية التي يكتبها الرجل واستصفيت في ذلك التاريخ أسماء قليلة.. واليوم تغير الوضع إذ أضيفت روايات عديدة لنسوة كاتبات أثرين المكتبة الروائية التونسية بنصوصهن المتميزة بنصيب وافر من الجودة والإتقان الفني. * وماذا عن حركة الترجمة والتعريب؟ - بخصوص حركة الترجمة والتعريب ينبغي أن نحيي تأسيس المركز الوطني للترجمة الذي جعل ضمن برامجه السنوية جملة من العناوين الأدبية شعرا ونثرا. وقد بدأت بعض ثماره في الظهور ولا نشك انه سيساهم مساهمة فعالة في اشعاع الأدب التونسي وعن طريق ترجمته الى لغات عالمية مختلفة . نقمة واتهام بالقصور * هل من تعليق عن ما يقال عن لجان التحكيم بعد كل مسابقة (وانت عضو لجان عديدة)؟ - ما يقال عن لجان التحكيم بعد كل مسابقة هو بالذات ما جعلني أنسحب منها وأفسح المجال لغيري لعلّ الوضع يتغير. ولكن ومع الأسف لم يتغير شيء، فالتذمر بقي على حاله، والاتهام بعدم الموضوعية ازداد والشعور بالظلم تفاقم، وهذا يعود الى نرجسية الكاتب الذي لا يتصور بعد كل ما بذله من جهد لإخراج عمله على أحسن تقويم، انه يوجد من يفوقه جودة وتميزا وانه أولى من غيره بالتتويج فيسب الدهر وينقم على لجان التحكيم ويتهمها بالقصور عن فهم نبوغه. وعوض ان يواصل البحث ويجوّد صناعته فإنه قد يصاب بالإحباط ويتوقف عن الكتابة أو يتحول الى مجالات أخرى علّه يصيب منها نفعا. ولن يصيبه إذا كان دافعه الفوز العاجل. * الإشراف على أطروحات الدكتوراه ورسائل الماجستير وعضوية المجلس العلمي بكلية الآداب بمنوبة ماذا أضافا لك كمبدع وبأي لون لونا علاقاتك بالبقية؟ - ما ذكرت من أنشطة هو لب كياني والإبداع جزء لا يتجزأ منه يفيده ويستفيد منه بصورة أو بأخرى ,وهو الذي يكيف علاقتي بنفسي أولا وبالجامعة ثانيا وبالساحة الثقافية ثالثا. ولا أراني أفصل بين مجال وآخر إذ كل المجالات متكاملة. * هل من جديد؟ - الجديد عندي هو صدور ترجمتي لأطروحتي حول "الهامشيين في المقامات العربية وروايات الشطار الإسبانية" قريبا عن المركز الوطني للترجمة. ومعلوم اني ناقشتها في الصور بون سنة 1980 ونشرتها في تونس سنة 1982 بالفرنسية. ولم أتفرغ لتعريبها إلا مؤخرا بسبب انشغالي منذ ذلك التاريخ بإصدارات أخرى أكاديمية ونقدية وإبداعية. أما إذا كنت تفكرين في الرواية فان النص الروائي الذي شرعت في كتابته لم يكتمل بعد.