سألت المذيعة سيدة في الثلاثين من عمرها وهي خارجة من المسرح الأثري بقرطاج عن رأيها في سهرة الفنانة صوفية صادق. فقالت هذه السيدة : - الحفلة السواري طيارة فريمون، لا شانتوز صوفية عندها بالوفوا، سي فريمون فورميدابل، يلزم التوانسة يحبوا الفودادات متاعهم، أون - أ - مار من لي ليباني الجدد، سي فريمون طيارة صوفية ، طيارة ، طيارة والسوراي ميرفايوز». كان يمكن أن أكتب هذا النص بالفرنسية وارسم الكلمات القليلة التي جاءت باللهجة الدراجة بالاحرف العربية ولكني حرصت أن ارسمها كلها بالاحرف العربية، لأني أعتقد أن هذه السيدة وهي تدلي برأيها تتصور أنها تتكلم باللهجة الدارجة التونسية. وكان يمكن أن لا تلفت هذه السيدة نظري تماما لو كانت هي وحدها التي استعملت هذه «اللهجة» التي جاءت أغلبها باللغة الفرنسية لكنها لم تكن نشازا.. ولا شاذة.. فلقد تحدث جل المستجوبين الى المذيعة بالفرنسية السليمة.. أو اللهجة اللقيطة التي تحتوي على جمل فرنسية كاملة أو «مكسرة» أو مخلوطة بكلمة ايطالية عابرة.. أو لقطة أنقليزية مدسوسة. وما هو واضح أن هذه اللهجة أصبحت رائجة جدا في كل الاوساط عبر الاذاعات والتلفزات التونسية ولا يمكن وصفها الا بكونها لهجة هجينة لا روح فيها ولا أبعاد. انها الآن تتشكل شيئا فشيئا وتكتسح اللهجة الدارجة التونسية مفقدة إياها روحها وعمقها وانغراسها في العمق الاجتماعي والشعبي . وما يزعج حقا أن لا أحد يعمل على ايقاف هذا التيار الذي يتحرك بقوة جارفا اللهجة التونسية التي يعتبرها المختصون أقرب لهجة الى اللغة العربية الصافية. صحيح أن اللهجة التونسية بدأت تحمل الالفاظ الفرنسية والايطالية الدخيلة منذ القرن التاسع عشر ولئن لم يكن هذا الدخيل خاليا من المخاطر على الروح التونسية الا أن العملية «الامتزاجية» كانت مفهومة وربما مقنعة لأن جل الالفاظ المتسربة في اللهجة التونسية كانت جلها اسماء لأدوات صناعية أو لبضاعة فلاحية قادمة من الغرب المتطور ولا حلّ للتونسيين غير تقبل اسماء أشياء لم نبتكرها ولم نصنعها ولم نساهم في تطويرها او في ترويجها الا فيما بعد أي في القرن العشرين. وكان يمكن اليوم أن نواصل تقبل الالفاظ والمصطلحات والمسميات الاجنبية للبضاعات والأدوات القادمة من كل أنحاء العالم ما دمنا نواصل ا ستهلاك ما لا نصنع .. وما دمنا لا نساهم في ابداعها. لكن المتسرب الآن وبقوة واضحة للعيان وللاسماع هي جمل فرنسية كاملة.. وكلمات أنقليزية سليمة بلا تدخل من اللهجة التونسية اطلاقا، وهذه الجمل تعوض شيئا فشيئا اللهجة الدارجة. وقد بات واضحا أيضا أن بعض الفنانين التونسيين تأثروا بما يجري في لبنان وأصبحوا يؤدون أغنيات تجمع بين اللهجة الدارجة والفرنسية وبعض الكلمات الايطالية والانقليزية وهذه الاغاني لا تجد صعوبة في الترويج إطلاقا. هذه الظاهرة في الواقع ليست جديدة وقد انتشرت بضع أغنيات باللهجة الهجينة في النصف الاول من القرن العشرين وهي من نوع «مصطفى يا مصطفى» و«شيري حبيتك» وغيرها.. لكنها أيضا كانت «مفهومة لانها ليست «وليدة» شرعية إنما هي نتاج غير طبيعي في جسم اجتماعي لم يتقبلها بالسهولة التي نتصورها . أما اليوم فإن ما يجري على اللهجة الدارجة أمر غير مفهوم ولا هو مقبول واذا ما تهاونا أكثر فإن التونسي سيفقد لهجته شيئا فشيئا ولن يكون مفهوما في جانب من الاوساط الاجتماعية في تونس ثم لن يكون مفهوما في كامل البلاد العربية. ان الكثير من المواطنين العرب اذا ما قيل لهم هل تسمعون أغاني التونسيين وهل تحبون المسرحيات التونسية وهل تشاهدون الافلام التونسية يقولون: لهجتكم التونسية غير مفهومة. يقولون هذا بوضوح كامل وهم يستمعون الى لهجة تونسية جل ألفاظها من العربية الفصحى الصافية.. فماذا سيقولون وما هو موقفهم عندما يستمعون الى تونسيين من قبيل السيدة التي عرضنا «رأيها» بالالفاظ التي استعملتها ؟ المطلوب منّا جميعا العمل على صيانة اللهجة التونسية من الاندثار باتخاذ اجراءات تطهيرية ليست أصعب من الاجراءات التي نتخذها لحماية البيئة في البر والبحر والجو.. أي أنها اجراءات بسيطة وعادية كأن ندعو عبر الاذاعات والتلفزات والجرائد والمجلات التونسية الى الحديث باللهجة الدارجة والتقليل اكثر ما يمكن من اللهجة الهجينة والجمل الأجنبية الكاملة، وأن ندعو المواطنين الذين يتحدثون الى الاذاعات والتلفزات التونسية ليستعملوا لهجة تونسية مقبولة. ويمكن للزملاء المذيعين والمقدمين والمنشطين والصحفيين تنبيه ضيوفهم بكل لياقة وأدب الى الاجتهاد حتى تكون لهجتهم تونسية عادية، فلا بأس إن تسربت لفظة أجنبية خاصة اذا كانت إسما أو مصطلحا أو تعبّر عن مفهوم حضاري معين أما أن تصبح «لغة التخاطب» فلا. ليس علينا أن نتهاون في هذه المسألة وستكون النتائج إيجابية وتأثيرها سيكون مهما؟ فهل أتى اليوم الذي لم نعد ندافع فيه عن اللغة العربية حتى لا يكتسحها الدخيل بلا موجب وأصبحنا ندافع عن اللهجة التونسية التي لم تكن في حاجة الى ذلك؟ وما يجب قوله الآن أن الدخيل في اللغة اذا كان متعلقا بالعلم والتكنولوجيا والاليكترونيك، فهو مقبول رغم الجهود المبذولة في التعريب..أما إذا كان الدخيل في مسائل عادية وحوارات حياتية واجتماعية وفي الابداعات المسرحية والسينمائية والغنائية وغيرها فهو غير مقبول على الاطلاق.