فجعت الاوساط الثقافية والسياسية والحقوقية والدبلوماسية أمس في المناضل الوطني والكاتب المثقف والسفير والوزير في أول حكومة أسسها الزعيم بورقيبة بعد إعلان الجمهورية الرشيد إدريس عن عمر ناهز 93 عاما.. وقد كان المناضل الرشيد إدريس حتى الاسابيع القليلة الماضية مدمنا على القراءة والكتابة يتردد ويواكب بانتظام جل أنشطة جمعية دراسات دولية التي أسسها مع نخبة من المثقفين عام 1981.. فتولت إصدار مجلة فصلية علمية من الحجم الكبير بالعربية والفرنسية وانفتحت مؤخرا على الانقليزية.. كما أصبح للجمعية معهد دراسات دولية معترف به من قبل اليونسكو والالكسو والاممالمتحدة ينظم سنويا مئات المحاضرات لفائدة الطلبة والشباب والدبلوماسيين وعموم المواطنين.. والفقيد الكبير من أبرز نشطاء المجتمع المدني ومن بين مؤسسي جمعيات عديدة منذ مرحلة ما بين الحربين من بينها الشبيبة المدرسية والشبان المسلمون التي أسست جريدة تونس الفتاة وحركة الشباب المناصر للقضية الوطنية من داخل الحزب الدستوري ومن خارجه عبر الجمعيات والمنظمات الثقافية والادبية التي كانت تتخذ من الخلدونية في نهج العطارين مقرا لها بدعم من جمعية الشبان المسلمين. في الهيئة العليا لحقوق الانسان وقد كان الفقيد كرم من قبل سيادة رئيس الجمهورية زين العابدين بن علي فعين عام 1991 رئيسا للهيئة العليا لحقوق الانسان واستقبله مرارا عديدة.كما حظيت جمعية دراسات دولية التي أسسها الفقيد عام 1981 ومجلتها ومعهد الدراسات التابع لها بدعم رئاسي وحكومي ومن المجتمع المدني والمثقفين المستقلين.فيما تم تعزيز جمعية دراسات دولية مؤخرا بهيئة مديرة موسعة وإدارة تنفيذية ومجلس علمي استشاري يضم عشرات المثقفين والاعلاميين البارزين والوزراء والسفراء السابقين والخبراء في الشؤون الدولية. وقد ولد الرشيد ادريس بتونس في 27 جانفي 1917 ودرس بالصادقية.. وقد بدأ منذ 1934 النضال الجمعياتي في جمعية الشبيبة المدرسية ثم أسس مع يوسف بن عاشورونخبة من الشباب الصادقي والزيتوني بينهم الصادق بسيس جمعية الشبان المسلمين التي أسست جريدة تونس الفتاة.. السجن والاعدام وقد اعتقل الرشيد ادريس مرارا وحوكم بالاعدام واضطهد مرارا.. وعرف السجون لاول مرة عام 1936 اذ اوقف لمشاركته في مظاهرة سياسية وطنية ثم أوقف ثانية اثر حوادث 9 افريل 1938 وقضى ثلاثة اشهر بالسجن وفي 1940 اوقف للمرة الثالثة وحكم عليه بخمس سنوات سجنا وعشر سنوات نفيا.. وعندما افرج عنه في ديسمبر 1942 عاد الى سالف نشاطه السياسي بنشر صحيفتي "افريقيا الفتاة" و"الشباب" ثم غادر تونس وشرع في الدفاع عن القضية الوطنية في عدة بلدان مما ادى الى الحكم عليه بالاعدام من قبل محكمة عسكرية فرنسية بتونس (1946).. وقد التحق في المنفى بالزعيم الحبيب بورقيبة في القاهرة حيث شارك في بعث مكتب المغرب العربي.. وما بين 1952 و1954 مثل الفقيد الكبير الحزب الحر الدستوري الجديد بالقاهرة واندنوسيا والباكستان وفيها تعرف على رفيقة دربه وزوجته لاحقا "جانين" المراسلة الصحفية آنذاك في شرق اسيا.. ثم عاد الى القاهرة حيث سير الفريق التونسي للجنة تحرير شمال افريقيا.. حتى 1955 تاريخ عودته الى ارض الوطن فانحاز الى الزعيم بورقيبة الذي كلفه بالاشراف على ادارة جريدة "العمل" لسان الحزب الحر الدستوري الجديد.. وغداة الاعلان على الاستقلال عينه بورقيبة ملحقا بديوانه في اول حكومة لتونس المستقلة ثم اشرف على قسم افريقيا-آسيا بوزارة الخارجية.. و شارك في الانتخابات وانتخب عضوا بالمجلس التاسيسي.. عضو في أول حكومة ثم عين وزيرا في أول حكومة شكلها بورقيبة بعد اعلان الجمهورية.. فترأس حقيبة للبريد والبرق والهاتف من 1957 الى 1964.. وقد استغل الزعيم بورقيبة شبكة العلاقات الدولية للرشيد ادريس واتقانه الانقليزية والاسبانية الى جانب الفرنسية والعربية فكلفه بمهمات دبلوماسية عديدة من بينها مهمة في 1961 حيث قام بمساع حميدة بامريكا الوسطى وامريكا اللاتينية بصفته مبعوثا خاصا للرئيس بورقيبة على اثر حوادث بنزرت (جويلية 1961) ثم عينه سفيرا في واشنطن ومكسيكو من 1964 الى 1969 وقد زار بورقيبة في عهده الولاياتالمتحدة واستقبل من قبل الرئيس الامريكي جونسون.. وعام 1970 كلف الرشيد ادريس بخطة ممثل قار لتونس لدى منظمة الاممالمتحدة بنويورك ورئيسا للوفد التونسي لدى المجلس الاقتصادي والاجتماعي الاممي وفي 1971 انتخب رئيسا للمجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع لمنظمة الاممالمتحدة. وما بين 1970/1976 شارك بانتظام في كل انشطة الهياكل الاممية بنويورك وتراس بصفة ممثل لتونس مرات عديدة الجلسة العامة للامم المتحدة. وفي 1979 عين مبعوثا خاصا للرئيس بورقيبة لدى كل من الرئيس سركيس (لبنان) وياسر عرفات (رئيس منظمة التحرير الفلسطينية) ورئيسي اليمن الشمالي واليمن الجنوبي والسلطان قابوس سلطان عمان والى رئيسي دولتي قطر والبحرين.. بعد التغيير وبعد التغيير كرم الرئيس زين العابدين بن علي المناضل الرشيد ادريس فاسند اليه جائزة رئيس الجمهورية لحقوق الانسان عام 1993 ووسام 7 نوفمبرووسام الجمهورية.. وكلفه الرئيس بن علي بمهمات عديدة من بينها الوساطة بين العراق والكويت لمعالجة ملف المفقودين الكويتيين خلال مرحلة الغزو بالتنسيق مع الامانة العامة لجامعة الدول العربية .. كما كلفه الرئيس بن علي عام 1991 بتكوين ورئاسة لجنة التحقيق والاستقصاء في قضايا حقوق الانسان. وفي 1996 شارك مع مناضلي جمعية دراسات دولية بتونس في تأسيس شبكة "اورومسكو" للدراسات الاورومتوسطية في نطاق مشروع برشلونة للشراكة. اصدرات وقد تابع الفقيد حتى العام الماضي اصدار الكتب التي غلبت عليها صبغة الشهادات تتويجا لسلسة من المؤلفات في رصيده من أبرزها: "من باب سويقة إلى منهاتن" (باللغة العربية) A L'aube la lanterne ترجم إلى العربية بعنوان "فانوس الفجر" "ذكريات مكتب المغرب العربي في القاهرة" (بالعربية) و"من جاكرتا إلى قرطاج" (بالعربية) و"أرق على ورق" (بالعربية) URRANCE (متاهات) (بالفرنسية) Reflet d'un combat (على هوى القلم) (بالفرنسية) "في طريق الجمهورية" (بالفرنسية).. شاهد على العصر عرفت أجيال الفقيد الكبير.. وتميزت أنشطة جمعية دراسات دولية خلال الاعوام الماضية بحميمية الكلمات التي توجهت بها الى المناضل الرشيد ادريس شخصيات عرفته أيام الكفاح الوطني مثل السيد فؤاد المبزع أو بعده مثل السادة الحبيب بن يحيى والباجي قائد السبسي وسعيد بن مصطفى وطاقم وزارة الخارجية الذي عمل معه او تعلم منه.. وقد عرفت الفقيد عن قرب منذ عام 1984 عند اعداد رسالة جامعية تاريخية عن دور الجمعيات الشبابية في الحركة الوطنية ما بين الحربين.. وعرفته وهو يحتظر.. وأحسن صفة يمكن اطلاقها عليه أنه كان فعلا شاهداعلى العصر.. كمال بن يونس السيد الهادي البكوش:«كان دائما في الصفوف الأمامية في سبيل تونس وبناء الدولة» تونس الصباح "خسرت تونس اليوم رجلا من كبار رجالاتها وعلما من اعلامها. فقد سخّر المرحوم الرشيد ادريس حياته منذ الشباب بلا انقطاع للنضال والدفاع عن الوطن وكان دائما في الصفوف الامامية متحملا السجن والابعاد والهجرة في سبيل تحرير تونس وبناء الدولة. لقد عرّف المرحوم بتونس ورفع من شانها في المحافل الدولية وفي الدول الصديقة والشقيقة قبل الاستقلال وجنّد لها التأييد والسند والاعانة. وأي شخص يزور اليوم اندونيسيا يجد شخصية وصورة المرحوم راسخة في اذهان الشخصيات الاندونيسية. فكل المسؤولين مازالوا يذكرونه بخير ويقدرون نشاطه. واصل نضالاته بعد الاستقلال فكان وزيرا وسفيرا ومسؤولا... لقد مّر بكل مراحل تاريخ تونس بعد الحرب العالمية واثناء الحرب العالمية وكان بعد الاستقلال مع بورقيبة في النضال والبناء ثم مع الرئيس زين العابدين بن علي بعد التحول. لقد حافظ على مكانته العالمية بفضل نشاطه الدؤوب الذي كان يقوم به بتألق على رأس جمعية الدراسات الدولية التي جعل منها مؤسسة عتيدة في تونس وخارجها. ومما وجب ذكره عند الحديث عن الرشيد ادريس تواضعه الكبيرفهو رغم اعماله الجليلة والكبيرة التي ستخلد ذكراه، لا ينظر الى الوراء بل ينظر فقط الى المستقبل. فماضيه كله نشاط وحيوية وانجازات. لا يجب أن نسى ما يتمتع به الفقيد من دماثة الاخلاق وهو من الزعماء الوطنيين القلائل الذي جمع بين العمل والنضال والكتابة والابداع الفكري. رحمه الله ورزق اهله وذويه -وخاصة زوجته التي وقفت معه طوال حياته وفي أزماته- جميل الصبر والسلوان وانا لله وانا اليه راجعون". الشاذلي القليبي: «الرشيد إدريس شاعرا» تونس الصباح "نظرا الى فارق السن بيننا،لم أواكب نشاط الفقيد الرشيد ادريس أيام الكفاح. فليس لي إذن معلومات خاصة أدلي بها في هذا الصدد. لكن شهدته في بعض ما تقلد من وظائف بعد الاستقلال،وخاصة السفارة لدى أمريكا والأمم المتحدة. والراي السائد أنه كان بعد الزعيم المنجي سليم، من بين الشخصيات المتميزة التي تبوأت هذا المنصب. واهم ما اريد الاشارة إليه،هو أن الفقيد كان يكتب الشعر بالفرنسية، ولم اهتم بقراءة أشعاره لمدة غير قصيرة. ثّم لسبب ما،فتحت يوما مجموعة شعرية له بالفرنسية، ونظرت فيهانففوجئت بنوعية في السبك،وفي لطف المشاعر،وفي النفس الوجداني ممّا يوجد عند فخول الشعراء. وهذا الجانب من شخصية الرجل غير معروف،ولم يلتفت اليه نقاد الأدب. رحم الله الفقيد رحمة واسعة واسكنه فراديس جنانه" رشيد صفر: «كان مثالا ومنهجا قبل الاستقلال وبعده» تونس الصباح "أخ عزيز على كل المناضلين فارقنا وفراقه صعب على الجميع. نضاله كان مستمرا منذ الصغر ولحد آخر أيامه. لقد خطّ مسيرة نضالية وفكرية رائعة ستخلده الى الأبد... رجل آمن بعقيدة قوية وبقي على ايمانه ونضاله... كان نضالا صادقا ومستقيما نستلهم من مسيرته التي تغذي نفوسنا لنواصل الدرب على خطاه. انجازاته النضالية والديبلوماسية والسياسية لا تعد وكذلك نشاطاته الفكرية. صبغ مسيرته بالنضال وأحب البلاد وكان مثالا ومنهجا قبل الاستقلال وبعده ديبلوماسيا وسياسيا ثم واصل هذا النضال في مجالات أخرى وخاصة في جمعية الدراسات الدولية. رحم الله هذا الرجل العظيم وان شاء الله نستلهم من مسيرته ونضاله وأعماله. رحمه الله ورزقنا ورزق اهله وذويه جميل الصبر والسلوان". الرشيد إدريس في ذمّة التاريخ خالد عبيد مؤرخ جامعي تعجز الكلمات عن التعبير عمّا يختلج في خاطري كما ذاكرتي كما عاطفتي ووجداني من مشاعر وأحاسيس وارتسامات تجاه من اعتبرته ولا زلت أحد آخر "ديناصورات" النضال الوطني التونسي بالمعنى الايجابي للكلمة، لقد فارقنا الرشيد إدريس وهو متمسّك بالحياة تمسّك المؤمن بأنّ الموت حقّ عليه، لقد فارقنا الرشيد إدريس بعد حياة نضالية زاخرة، وهب فيها نفسه لهذا الوطن دون حساب ودون كلل أو ملل، ضحّى بنفسه من أجل هذه البلاد عندما كانت التضحية عنوانا للتهوّر والمجازفة، افتتن في مراهقته بفتاة ولا ككلّ الفتيات،وتتيّم بها إلى حدّ الوله، وسخّر كلّ جهده وكلّ طاقته، التي لم تنضب أبدا إلاّ الآن مع وفاته، إليها، إلى تونس، الذي عشقها فخاطر بحياته من أجلها وحُشر في السجون بسببها وهو لا يبالي، بل تراه في زنزانات السجن المدني أسدا صهورا كما حدّثني عنه رفاق سجنه، وكان يبعث الحماس والحميّة الوطنية لدى مناضلي حزب الدستور الجديد المسجونين معه، في ظرف عزّ فيه النضال وتوارى عنه كلّ من كانت نفسه ضعيفة تأبه العسف والقمع الفرنسي، وزُلزل المناضلون فلم يبق منهم إلاّ اليسير الذي حُشر أغلبه في السجون خلال محنة أفريل 1938 وما بعدها، كان صوته يجلجل في ردهات هذا السجن وغرفه، حاثّا على الصبر والصمود، واستنبط إذاعة أسماها إذاعة سين سين ينقل فيها من خلال صوته أخبار عالم خارج السجن، وينفث فيها حماسا بات عزيزا، فلم تزده سنوات السجن إلاّ إصرارا على النضال وتمسّكا بحبّ بلاده والتضحية من أجلها، وهو الذي كانت له اليد الطولى في إنقاذ حزب الدستور الجديد من التلاشي بعد أن اكتشف أمر الدكتور الحبيب ثامر والديوان السياسي السرّي السادس في جانفي 1941، فكان أن تسلّم الامانة وأسّس مع رفاق له الديوان السياسي السرّي السابع، الذي استمرّ إلى حدّ جويلية 1941، تاريخ انكشافه ومن ثمّة اعتقال الرشيد إدريس والبعض من رفاقه. وتحمّل الرشيد إدريس النفي عن بلاده تونس لمدّة 12 سنة، منذ سنة 1943، وحكم عليه الفرنسيون بالاعدام في أفريل 1946 بتهمة هي ذاتها في حاجة إلى إثبات وإلى إعادة قراءة جديدة بعيدا عن تصفية الحسابات الضيّقة.! محمد مواعدة: «النضال في حياته حالة وجودية» «فقدت العائلة الوطنية شخصية نادرة ومناضلا من أبرز المناضلين الأفذاذ الذين كان لهم دور متميز في مختلف مراحل الكفاح الوطني ضد الاستعمار، وكذلك في بناء الدولة التونسية وتعزيز دورها ومكانتها في المحافل الدولية. وليس من السهل التعرض الى مآثر هذا المناضل الكبير المرحوم رشيد ادريس، إنها مآثر عديدة كميا ونوعيا. وهو من المناضلين الوطنيين الذين تنطبق عليهم المقولة التي نذكرها في بعض الحالات «أنا أناضل فأنا موجود»... أي النضال عنده وعند أمثاله له خصوصية وجودية... ولذلك كانت حياته في جميع مراحلها حالة وجودية دائمة، ولا يمكن في هذه المناسبة مناسبة فقدان تونس لهذا المناضل الكبير أن لا نذكر موقفه التاريخي المتميز يوم 25 جويلية 1957 في المجلس التأسيسي بإعلانه الصارم ضرورة التخلي عن النظام الملكي ولو كان دستوريا وإقامة نظام جمهوري تعود فيه السلطة للشعب من خلال مؤسسات وطنية منتخبة.. لقد كان موقفه حاسما وواضحا دون تردد أو لبس أو غموض، في حين كان العديد من زملائه بذلك المجلس يسودهم الغموض والتردد.. أما مواقف المناضل رشيد ادريس المتميزة في المجال الديمقراطي والحريات العامة وحقوق الانسان.. فحدث عنها ولا حرج.. لتعددها وتميزها ودوامها في مختلف الظروف والأحوال والمناسبات. هذا اضافة الى ثقافة موسوعية شمولية ودماثة خلق وهدوء طبع وتواضع نادر.. رحمه الله رحمة واسعة ورزق ذويه وعائلته الوطنية جميل الصبر والسلوان».