أذكر في كل مرة وأحاول أن أجتهد لتنشيط الذاكرة الوطنية التونسية واطلاع شبابنا بالخصوص على رواد حركتنا الوطنية التي قاوم أبطالها الاستعمار وقاوموا الاحتلال حتى انجلى عنا نهائيا وأصبحنا بنعمة الله وبفضلهم أحرارا ننعم بالحرية والكرامة والسيادة في ظل قيادة حكيمة ونظام عتيد ودولة مجتهدة تعمل باستمرار منذ الاستقلال الى فجر السابع من نوفمبر على إرساء دعائم الدولة المنظمة وتفتخر بما تم إنجازه في عهد التغيير المبارك في حركة تصحيحية نبيلة للمسار، تأمينا لمناعة البلاد وصيانة للاستقلال والجمهورية وللمكاسب الوطنية وتحقيقا لانجازات جديدة ورفعا لكل التحديات. ومن الابطال الذين كانوا بارزين في سنوات الحركة الوطنية نذكر اليوم المناضل الكبير المرحوم صلاح الدين بوشوشة الذي سعى الى خدمة بلاده وقضيتها العادلة دون مقابل بحكم وظائفه وعلاقاته في مختلف الهياكل السياسية والاجتماعية والتربوية، إلا أن حادثا أليما أودى بحياته وأرداه قتيلا وهو في ريعان الفتوة وزهرة العمر، إذ لم يعش أكثر من ثلاثة وثلاثين عاما وعشرة أشهر وعشرين يوما أي من 25 ماي 1912 تاريخ ولادته بتونس الى سنة 1946 تاريخ هلاكه في حادث سيارة أودى بحياته، في مدخل مدينة بنزرت في ظروف سأستعرضها لاحقا. والمناضل الكبير صلاح الدين بوشوشة أصيل مدينة بنزرت ينحدر من عائلة بوشوشة العريقة في النضال، زاول تعلمه بالمدرسة الصادقية ابتدائيا وثانويا، الى أن تحصل على الديبلوم الصادقي عام 1927، فسافر الى فرنسا رفقة المرحوم علي البلهوان مواصلين الدراسة العليا في تخصص الآداب واللغة العربية، وقبل إنهاء تلك المرحلة، فجع بموت أبيه، فعاد أدراجه الى تونس وانقطع عن الدراسة ليتكفل بشؤون والدته وإخوته البنات الثلاث وأخ. فدخل يعمل قيما عاما بالمدرسة الصادقية يوم 10 ماي 1936 وبدأ نشاطه السياسي النضالي وهو ما جعل سلطات الحماية تطرده من الوظيفة، فاشتغل مدرسا بالمدارس الخيرية فاغتنم الفرصة ليلهب مشاعر الشباب من التلاميذ ويحرضهم على التمرد ضد الاستعمار والوقوف في وجه الاحتلال والمطالبة بالحرية، وهو ما أدى الى انفصاله عن الوظيفة ثانية بتهديد من السلطة الاستعمارية للمدرسة الخيرية، وهكذا بقي يتنقل من عمل الى آخر ليعيل أمه وإخوته، دون أن ينسى واجباته النضالية ورسالته الوطنية، وكانت جمعية قدماء الصادقية اختارته لتدريس اللغة الانڤليزية لالقاء دروس خصوصية على طلبة الصادقية. روح شبابية ظهرت وطنية صلاح الدين بوشوشة مبكرا، فمنذ سنة 1930 تاريخ انعقاد المؤتمر الافخرستي بتونس، تبشيرا بالمسيحية ورغبة من المستعمر قصد فسخ الهوية الدينية والوطنية واللغوية للشعب التونسي حيث كان المناضل الكبير صلاح الدين بوشوشة واحدا من المتظاهرين في وجه قوى الاحتلال طيلة نفس العام، وهي الفرصة الاولى التي تفجرت فيها طاقته في الكفاح والنضال وأنجبت فكرته تأسيس منظمة الشبيبة المدرسية حيث كان المناضل من رواد الحزب القديم ثم الجديد بزعامة الرئيس الراحل الحبيب بورڤيبة، كما شارك صلاح الدين بوشوشة في أحداث 9 أفريل 1938، وحضر مؤتمر الحزب الحر الدستوري الجديد في نهج التريبونال في أوائل نوفمبر 1937، وكان دائم الحضور والمساهمة الفعلية في المسيرة النضالية والعمل الى جانب إخوانه في الكفاح والنضال منهم السادة الباهي الادغم وعميد المناضلين الاستاذ الرشيد ادريس (أطال الله في عمره) وخميس الحجري وغيرهم، حيث ألقت عليهم جميعا شرطة الحماية القبض يوم 14 أفريل 1938 وزجّت بهم في السجن، ومن بينهم المناضل صلاح الدين بوشوشة الذي بقي معتقلا هو وبعض الرفاق الى شهر سبتمبر من نفس السنة، ثم فرضت عليه سلطات الحماية الاقامة الجبرية. وبعد الافراج عليه عمل صلاح الدين بوشوشة بإدارة المالية إلا أنهم فصلوه عنها لنشاطه النضالي والسياسي، فظل يعمل في حقل النضال السياسي صحبة الزعماء، وخاصة منهم الزعيم الراحل الحبيب ثامر في تنظيم اجتماعات سرية تعقد حسب المستجدات، في ديار المناضلين أمثال الهادي زيد ومصطفى الاحمر وبدار محمد بن عثمان، بل قد تشكل الديوان السياسي الخامس في دار أحدهم وهو المرحوم مصطفى الاحمر. وقوي العمل السري خشية الاعتقالات وتنفيذ أحكام الاعدام. إلا أن يد الاستعمار كانت دوما له بالمرصاد فألقي عليه القبض من جديد مع رفاقه الاخوان رشيد إدريس، ويوسف بن عاشور، ومحمد الغمراسني، والشاذلي السلامي، وعمر بوغانم، وقدمتهم السلطات الى المحاكمة، وكاد يحكم على المناضل صلاح الدين بوشوشة بأقسى العقوبات لولا أن رفيقه المناضل الكبير الاستاذ الرشيد ادريس ويوسف بن عاشور نسبا لنفسيهما أمام المحكمة أفعالا، خفضت عليه الحكم، فحكم عليه بثلاثة أعوام سجنا، وعند خروجه اتصل بالقنصلية الانڤليزية التي كانت تعطف على القضية الوطنية التونسية، وواصل نضاله في كامل جهات البلاد، مع التحاقه بالعمل بالحجرة التجارية عام 1943 التي كان يرأسها المناضل محمد بدرة، الذي كان له الفضل في تحرير رسالة بالانڤليزية وجهها الحزب الى ملك أنڤلترا لشرح القضية الوطنية التونسية وكسب العطف، وتوضيح موقف تونس من الحلفاء ورد زعم الفرنسيين أننا متعاطفون مع المحور، وكانت النتيجة تدخل رئيس الولاياتالمتحدة «روزفالت» للدفاع عن الحزب وزعمائه. رجل ثقافة ومع عمله ونضاله الوطني كان المناضل صلاح الدين بوشوشة رجل إعلام وثقافة وأدب وشعر وفن، صديقا حميما لكبار الكتّاب والمؤرخين والادباء والشعراء أمثال شاعر تونس الاول أبو القاسم الشابي، الذي تأثر به في واجب حب الوطن والتفاني من أجله والسير في طريق الحق والحرية بالارادة القوية والعزم الراسخ، وقد شاءت الاقدار أن يتوفى المناضل صلاح الدين بوشوشة صغير السن في حادث مريع سنة 1946 وهو يرافق المناضل والزعيم المنجي سليم من تونس الى بنزرت للمرافعة في احدى القضايا، وقد رغب المناضل صلاح الدين بوشوشة من المنجي سليم أن يرافقه ليزور شقيقته هناك، وقبل وصولهما الى القنال، أمام سوق الجملة الحالي، انقلبت بهما السيارة فكانت الضربة القاتلة، مات على إثرها المناضل صلاح الدين بوشوشة، فكان حدثا وفاجعة نكراء، وشيعه الوطنيون وأبناء الحزب وكثير من المواطنين والمثقفين يوم 17 الى مثواه الاخير، وبذلك شيعت الامة التونسة جثمانه الى مقره الاخير في خشوع وإجلال إكبارا واعترافا لنضاله وكفاحه من أجل استقلال تونس وعزتها ورفعتها بين الأمم. وهكذا انطفأت شمعة من أكثر شموع تونس في فترة الكفاح التحريري إضاءة وإشعاعا، فقد كان المرحوم المناضل صلاح الدين بوشوشة نظيفا ومثالا صادقا ونموذجا حيا للمناضلين المخلصين لله وللوطن، الجاهدين في الخلاص من المستعمر، الراغبين في أن يروا تونس حرة مستقلة عزيزة منيعة، والحمد لله تم تحقيق ذلك بفضل رجال تفضل بهم الخالق الفاضل لهذه الامة التونسية من الاستقلال الى تحول السابع من نوفمبر المبارك. رحم الله المناضل الكبير صلاح الدين بوشوشة، وجميع الزعماء والمقاومين والشهداء والمناضلين الذين جاهدوا وناضلوا وكافحوا حتى ننعم نحن اليوم في تونس بثمرة أعمالهم ونجني أطيب ثمارهم ونرى اليوم تونسنا الخضراء علمها يرفرف في السماء تنعم بالتقدم والامن والتنمية في ظل قائد سفينة تونس الزعيم المصلح الرئيس زين العابدين بن علي. مؤلف كتاب ملحمة النضال التونسي من خير الدين الى زين العابدين