لم يوضع حجر أساسها بعد.. قال عنه ابن خلدون: «أساس العمران» وجعل منه الفارابي عنوانا لمدينته الفاضلة.. شنت الحروب.. من أجل إرساء العدل - كما قيل - لكن لا الحرب.. فرضت العدل ولا السياسة... وجدت له طريقا للتنفيذ فظل العدل مثل المهدي المنتظر أملا يتشبث به الضعفاء ويتطيّر منه الأقوياء و«يبيعه» الفلاسفة والحقوقيون حلما للمثقفين والنخب.. *** أنشئت دساتير شيّدت ممالك... وجمهوريات قامت «الأنوار».. ولدت منظمات.. وهيئات.. ومعارضات.. للمطالبة بعدل... حتى بعد فوات الأوان.. لكن العدل... كان يتوارى خلف سياسات... ومعادلات... وحسابات.. أخذ غولدستون على عاتقه النفخ مجددا في روح العدل الضائع.. لكنه اصطدم بعدل من نوع جديد يسوّي بين الجلاد.. والضحية بين جيش وفدائيين فرفض أن يكون شاهد زور في محاكمة.. قضاتها.. هم الخصم... قبل أن يكونوا الحكم!! *** ترعرع ريتشار غولدستون في بلاد «الزعيم» الأسمر... أدرك مبكرا.. أنّ العنصرية بند لم يكتب في الدساتير وباطل يراد له أن يكون حقا.. درس الحقوق... ومارس المحاماة.. وشغل القضاء فأدرك أن للعدل ميزان.. حمل ميزانه إلى غزة فمالت كفته باتجاه تل أبيب أعلن الرجل... بالوقائع أن إسرائيل... جانية.. وأثبت... بالحيثيات أن جيشها... يستحق صفة الإجرام وسياسيوها... مرشحون للمحاكمة لاسم الرجل.. الخط الأحمر الإسرائيلي فاتهم بالإسطوانة المشروخة: «معاداة السامية»... رفضت إسرائيل ميزانه ومقاساته وهرعت «للمقالب» الديبلوماسية تشكو بثّها وحزنها.. فاحتضنتها سلطة عبّاس ووجدت فيها خير نصير لأسوإ تقرير... *** من حسن حظ غولدستون أنه عجوز... فوق الشبهات وأنه من فصيلة دم مانديلا وأن علاقته بالعرب... ضعيفة كضعف حجج إسرائيل.. دائما.. وأن الرهان على استقطابه أو إسكاته.. ضئيل كضآلة «الحق الإسرائيلي» في البقاء.. لذلك تحول الرجل (عند ليبرمان) إلى «بن لادن» بجرّة تقرير.. وقلم رصاص.. ألقاه على وجه إسرائيل فزلزل الأرض من تحت قدميها لأن عرش تل أبيب مثل بيت العنكبوت تعبث بها الرياح كيفما شاءت.. *** رفضت تل أبيب التقرير لأنه يمس صورتها «الناعمة» ويخدش جيشها وأخلاقه الدموية العنيفة ويهز عرش القضاء الإسرائيلي الذي اتخذته الدولة العبرية عنوانا لديمقراطية تنزف دما... وعنصرية وخرابا في الشرق الأوسط.. *** عيب غولدستون الوحيد.. أنه دحرج كرة الثلج باتجاه إسرائيل وخطأه الكبير... أنه أخذ «الرصاص المصبوب» على غزة وأعاده إلى منبته الإسرائيلي فحمي الرصاص وأحرق صورة إسرائيل بشواهد واقعية وعقل حقوقي وصياغة قانونية وهي «بدعة».. لم تتعود إسرائيل عليها... *** لعبة إسرائيل المفضلة.. «إفساد» القرارات وإحباط التقارير خاصة إذا ما كانت دولية... تستخدم «الفيتو الأمريكي» وديبلوماسية الترغيب والترهيب وتجييش الإعلام... لكنها هذه المرة... أجلت التقرير بجهد فلسطيني محمود ومباركة عربية صميمة وإصرار «إسلامي» غير مسبوق.. فنجحت في وضع تقرير «الرجل العجوز» في حالة «الأوف صايد» (التسلل)...