يقول الشاعر التونسي علي بن هادية في قصيدته تركنا البلاد: هناك نرى الغاب في روعه وفي الغاب دنيا من الطرب تغذّي العقول وتحيي النفوس وقد تتساوى مع الكتب ومن أجل هذا تركنا الكتاب ورحنا إلى الغاب للعب فهو في قصيدته يلوّح بأن التعلم ليس في المدرسة فقط بل حتى في الاوساط البيئية ومنها الغابة، فالشاعر يربط العلاقة بين صفحات الكتاب التي تلقن المطالع وصفحات الطبيعة التي تبيح التعلم التلقائي. ان التعلم في الطبيعة وان يكن في البداية هزيلا لكنه يبني المدارك وينمي الخبرات لانه يقدم بصفة رمزية مجردة بل بطريقة فيزيائية مكممة وعبر شعور تلقائي شخصي مبني على وعي مطلق لذلك هو يختلف عن المقدم في الكتب الذي مهما كانت دقته فهو مبهم خاصة اذا كان القارئ لم تتسن له فرصة الذهاب الى الغابة. ان القصيدة المكتوبة لا تجد صداها الا عند الذي دخل الغابة مثل الشاعر وتسلق الاشجار والصخور ولمس الاوراق الغضة وسمع حثيث وقع اقدامه على الاوراق اليابسة. فالتواصل عبر المكتوب هاجس لا يجد وقعه الا عند الذي تذوق نشوة الواقع. ماذا لو نظرنا بنفس الطريقة الى التدريس المدرسي وذلك بالاعتماد على التوثيق الخطي؟ ولو تحسسنا المشاكل الجمة التي تملأ الوسط المدرسي. فعندما ندرس الرياضيات نطرح على التلميذ نصا كالآتي: »سيارة سرعتها 50 كم في الساعة وسيارة ثانية سرعتها 40 كم في الساعة انطلقتا في نفس التوقيت من مدينة »أ« في اتجاه مدينة »ب« ونسأل: اي السيارتين ستصل الاولى؟ ماذا سيحدث؟ التلميذ سيبحر في العبارات ومفهومها وقد لا يبلغ المفهوم وسيعالج معطيات رقمية مبهمة فيزيائيا ومع ذلك نجبر هذا التلميذ على التفاعل مع الوضعية المقترحة. ثم عندما لا نبلغ ما توقعناه نأخذ في تسديد التهم الى هذا التلميذ من قلة الانتباه وقصر الخيال و... الى الحكم على المستوى والقصر في التفكير. ولكن عندما نمثل هذا النص على الواقع كأن نطلب من التلميذ ان يمسك بصديقه قبل الوصول الى باب المدرسة. وضعية سهلة واضحة المعالم وتتضمن ادراكا حسيا حركيا يفي بمفاهيم السرعة وزمن التنقل والمسافة. والذي سيحدث اثناء انجاز الوضعية هو ان التلميذ سيمارس السرعة عبر قدراته وسيركز في تنقله وفق زمن هو في مخيلته وسيتصرف في طاقاته وسيقيم ما لديه من قدرة بقدرات صديقه وفشله لا يعوقه ولا يكون له عقدة القصور في التفكير بل سيكون دافعا حقيقيا له للتواصل مع الآخر واعادة التجربة املا منه في التطور وبلوغ المطلوب وتحقيق الافضل كلما سمحت له الفرصة بذلك. اما المنتصر سيصعد في نسق السرعة كلما احس باقتراب صديقه وذلك عبر تفاعل نفسي حركي وسيتحدى امكانياته وفي كل هذا اصرار وعزيمة على الانتصار وبالتالي تدرك السرعة وتتجرد بنائيا والوضعية ترتقي بالطفل الى عالم الافتراض وهو عالم فكري منشود في البناء المعرفي فالطفل سيدرس كل المعوقات التي تحول دون بلوغه الهدف اثناء السباق. * لو كان حذائي أخف لتمكنت من الفوز * القميص الذي ارتديته عطل حركتاتي سأخلعه في المرة القادمة.. وما يتوج كل هذا ما سينتاب المنتصر من غبطة وسرور لتمكنه من الوصول الى باب المدرسة قبل ان يمسكه صديقه. تنافس شريف يبني الى جانب المفاهيم الرياضية سلوكات اخلاقية من ضمنها التسليم بالامر الواقع. وهكذا يبلغ دور المحسوس في الارتقاء بالمعلومة الى التجريد وتبنى المعارف لتصبح في مستوى المعالجة الرياضية. ان آداة المعرفة هي العقل وهو في ذات الوقت آلة التعلم وهو يهيأ بمعالجة العمليات الذهنية: الانتباه الادراك التفكير الاستبصار الترميز التنظيم التصنيف التذويب الشخصية الادماج التكامل التخزين التذكر الاسترجاع التعرف. عمليات لا نبلغها بممارسة عبارات لغوية وارقام مبهمة فيزيائيا والتي يتظاهر التلميذ بمعرفتها وادراكها كلما تفاعل معها وكثيرا ما نصطدم في الآخر بالنتيجة العكسية. وعلى سبيل المثال فالكيلومتر رغم ان تلاميذنا تمارسه بسهولة بصفة حسابية والحال هو اننا لو سألنا التلاميذ عن تقدير هذه المسافة فسوف يعجز الكثير منهم على الادلاء بالتقدير الصحيح وهذا راجع الى ان الطفل له العديد من الاساليب لبناء ذاكرته الاجرائية ومنها فضاء الجدول الذي يمارسه للتحويل فالتلميذ يصير مثله كمثل بعض الطيور او الحيوانات المدربة وهنا تكمن اهمية الحركة الجسمية في البناء المعرفي للمعلومة. ان النشاط الحركي يلعب دورا رئيسيا في قدرتنا على ادراك وفهم ما يحيط بنا كما ان النشاط الحركي على علاقة ادماجية مع الادراك وبمعنى اشمل مع الوعي. ان بالنشاط الحركي للجسد يبني العقل تدفقا مستمرا من الادراكات الشيء الذي يبرز بدقة الى اي حد المعرفة الواعية »الادراك« تختلف مع المعلومات المتقطعة المخزنة في الحواسيب والكتب فتطور العقل مرتبط بالحركة بالنسبة لكل الكائنات الحية هذه حقيقة والدليل على ذلك ان هناك دودة بحرية تسمى oscidie تنمي غدة شبيهة بالدماغ اثناء مرحلتها الاولى وذلك لتتمكن من السباحة وعندما تبلغ المرحلة الثانية من حياتها تصبح مستقرة وتبتلع دماغها وتصير كأنها نبتة وهذه العملية تتماشى وفكرة »Fransisco Vanéla« المتمثلة في ان الادراك يجب ان يكون على نحو حركة مقودة ادراكيا. ان الأبنية المعرفية تطفو انطلاقا من جراء الابنية الحسية الحركية التي تسمح للحركة بأن تكون مقودة من طرف الادراك. والتجربة »phi« تبرز بوضوح الفارق العميق بين المعرفة الواعية المتمثلة في العلاقات والمعلومة المخزنة والقارة. والنشاط الحركي الذي من مميزاته في تنمية البنية المعرفية انه يفضي الى بناء الرسم البياني للجسد وهي عملية اساسية في الأنا والآخر والفضاء المحيط أي الزمكان. كل هذا في التربية البدنية وتلميذنا لا يتلقى اثناء السنة الدراسية سوى سويعات قليلة من هذه المادة الثرية!! علي غزيل معلم متقاعد المراجع »Science et vie« سبتمبر 1993