الأستاذ أحمد العكريمي المحامي المتقاعد في غفلة من التاريخ وفي ظروف استثنائية صعبة ومعقدة تكتنفها الحيرة والغموض تجتازها البلاد التونسية نتيجة ما آلت اليه الامور من تدهور وتسيب وانفلات في العشرية الاخيرة من عهد الزعيم الرئيس الحبيب بورقيبة لاسباب يعرفها الجميع ولا فائدة في ذكرها واستعراضها في هاته العجالة استطاع رجل امن واستخبارات مغمور ومعقد يكاد يكون مجهول الهوية ان يتسلق سلم الترقيات الادارية حتى اصبح رئيسا للحكومة ثم اغتنم تلك الظروف وانقض على كرسي رئاسة الجمهورية ليقتلع منه الرئيس (المريض والخرف) وينصب نفسه رئيسا للجمهورية. وليقتنع التونسيين والعالم بأحقيته للرئاسة اصدر بيانا يعتبر وثيقة تاريخية بالغة الاهمية من حيث البلاغة والشمولية والاختصار يطمئن فيها الشعب على ضمان امنه وحريته واستقراره وتنمية موارده الاقتصادية ونشر لواء العدل والمساواة بين سائر اطيافه ومكوناته السياسية والاجتماعية. وتجدر الاشارة الى ان جل التونسيين يعرفون ان ذلك البيان كان من تحرير مستشاره الاول في تلك الفترة الذي يكن للرئيس بورقيبة حقدا دفينا فوجد الفرصة سانحة للانتقام منه بتشجيع ذلك الصعلوك ودفعه لارتكاب هاته المغامرة الخطيرة الحمقاء ضاربا بعرض الحائط مصلحة الشعب وطموحاته وتطلعاته وحريته التي ضحى في سبيل تحقيقها بالغالي والنفيس. فتقبل الشعب باحتراز وحذر هذا الامر الواقع باعتباره اخف الاضرار نظرا لما كان يعانيه من فراغ وتسيب وانفلات وخوفا على مستقبله اثناء تلك الفترة من رئاسة بورقيبة زعيم الشعب وباني تونس الحديثة وبقي ينتظر بفارغ الصبر ما سيؤول اليه الامر وعسى ان يفي هذا الرئيس الجديد بوعوده الواردة ببيان 7 نوفمبر ويتنفس الشعب الصعداء ويردد (أنجز حر ما وعد). لكن وا اسفاه فقد خاب ظنهم وجرت الرياح بما لا تشتهي سفنهم اذ تبين شيئا فشيئا ان للرجل اهدافا وغايات اخرى شيطانية خبيثة وبعيدة كل البعد عن طموحات الشعب وتطلعاته وامانيه كان اولها التخلص بالطلاق من زوجته الاولى نعيمة الكافي (ام الثلاثة بنات) ثم التزوج من ليلاه (ليلى الطرابلسي) التي كان احد مجانينها وليس هو مجنونها الاوحد ثم بدأ حكمه باحاطة نفسه بمجموعة من الاشخاص والاعوان الذين عمل البعض منهم معه بادارة الامن والاستخبارات اثناء توليه وزارة الداخلية ورئاسة الحكومة ووزعهم في اجهزة الدولة ومراكز السلطة والنفوذ واحكم سيطرته على وسائل الاتصال والاعلام المكتوبة منها والمرئية والمسموعة لتصبح مجرد ابواق دعائية لتلميع صورته وشرع هو وليلاه واصهاره وافراد عائلته وعملاؤه ومستشاروه والدائرون في فلكه في نهب وافتكاك حقوق الشعب وممتلكاته من منقولات وعقارات وشركات ومناجم ومصارف بنكية ومؤسسات تجارية واقتصادية الى ان تجاوزت قيمة ثرواتهم ميزانية الدولة حسب تقدير الخبراء وقد تمكنوا من تهريبها للخارج واستثمارها بعيدا عن اعين التونسيين. كل ذلك بمرأى ومسمع من افراد الشعب المقهور الذين لا حول لهم ولا قوة. وهكذا استمر الطاغية في جبروته وطغيانه غير عابئ بما اصبح يعانيه الشعب الذي هو امانة في عنقه من فقر وقهر وجوع وبطالة وحرمان بمن فيهم حملة الشهادات الجامعية من الشباب الذين يتفاقم عددهم عاما فعاما ولم يعودوا قادرين على الصبر والاحتمال. وما درى هذا الطاغية وزبانيته ان للصبر حدودا وان للشعب رب يحميه وشعبا انجب ابن خلدون والشابي وبن غذاهم والثعالبي وبورقيبة وحشاد وحرر بلاده من الاستعمار الفرنسي لن يسكت على هذا الظلم والقهر والاستبداد. وهكذا مرت الايام حالكة السواد والطاغية وبطانته جاثمون فوق صدور افراد الشعب المقهور الى ان استيقظ الشاب الجامعي العاطل عن العمل محمد البوعزيزي من نومه ذات ليلة على صدى صوت يناغيه ويتلو على مسمعه صيحة شاعر تونس والعروبة ابو القاسم الشابي. إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد ان يستجيب القدر ولابد للظلم ان ينجلي ولابد للقيد ان ينكسر
ثم أردفه ببيت شاعر النيل احمد شوقي: وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق
ثم تلاه هاتف اخر يردد: من يخطب الحسناء لا يغله المهر
فانتفض قائما من نومه منزعجا يردد كلمات كلها تكبير واستغفار وبعض الادعية ثم ارتدى ملابسه بسرعة وألقى نظرة على والدته التي كانت نائمة فقبلها من جبينها واسرع الى سوق الخضر بمدينة سيدي بوزيد يدفع عربته اليدوية التي يحمل عليها بعض الخضر والغلال قصد بيعها. وتشاء الاقدار ان تدفع احدى موظفات البلدية المكلفة بمراقبة الباعة الى اعتراض سبيله وتمنعه من الانتصاب في المكان الذي اختاره لبيع بضاعته. ولما اراد اقناعها بحقه مثل غيره في بيع بضاعته بنفس المكان اهانته ببعض العبارات الجارحة لرجولته وكرامته ثم صفعته على وجهه فاسودت الدنيا في عينيه ولم يعد يعي ما يفعل او يقول سوى دفع عربته بسرعة واتجاهه الى مقر الولاية مستحضرا صدى صوت الهاتف الذي أيقظه من نومه مرددا مقاطع شعر الشابي وشوقي والشاعر الاخر ليتظلم الى الوالي من صنيع ممثلة البلدية لكن الوالي رفض قبوله فأيقن اذاك ان جميع ابواب ومنافذ الحياة الكريمة قد اغلقت في وجهه ولم تعد لحياته اية معنى فقال في نفسه:
يا موت زر ان الحياة ذميمة ويا نفس جدي ان دهرك هازل
ولم يتردد فبادر بسكب قارورة البنزين التي كانت بعربته اليدوية على جسمه الغض النقي واشعل فيه النار لكن هاته النار لم تكن هي النار المتعارضة بل كانت النار المقدسة التي سرعان ما ارتفعت شعلتها ولهيبها في ربوع تالة والقصرين والرقاب ومنزل بوزيان وسائر مدن تونس العزيزة وسرى خبر احتراق محمد البوعزيزي سريان البرق بين شباب تونس المقهور رجاله ونسائه مثقفين وجامعيين وعاطلين عن العمل فلم يترددوا لحظة في الاقتداء بالشهيد الاول: محمد البوعزيزي واخذوا يتنافسون في الاحتراق بالنار المقدسة تحقيقا للثورة المقدسة التي اخذ سعيرها يمتد وينتشر بسرعة الهية عجيبة حتى اقتربت من مكامن وقصور اعداء الشعب وجلاديه بالعاصمة وضواحيها. كل ذلك وفرعون الطاغية وزبانيته واصهاره ومستشاروه وعملاؤه مستمرون (في طغيانهم يعمهون) غير عابئين ولا مكترثين بانتحار الشعب واحتراقه وحتى فناؤه الى ان فوجئ الفرعون بقائد جيشه الخاص والمسؤول عن امنه يقتحم عليه باب قصره مرتعشا ويعلمه بالخبر اليقين ويقول له (اهرب وفز بنفسك) وواجه مصيرك المحتوم فأمر حكمك قد انتهى الى غير رجعة بفضل نار الثورة المقدسة التي اكتوى بها محمد البوعزيزي ورفاقه الشهداء الابرار، فلم يصدقه في بادئ الامر وظن انه يهزل لكن قائد جيشه وحافظ امنه دفعه بقوة الى السيارة التي كانت تنتظره بباب القصر وقاده الى المطار العسكري حيث كانت الطائرة في انتظاره فما كان منه الا ان اجهش بالبكاء ولم يتمكن حتى من القاء نظرة اخيرة على عاصمة ملكه التي كان يظن انه سيخلد فيها مدى حياته ثم يورثها لليلاه واصهاره وافراد عائلته. والآن ليس لي الا ان اقول له ولاتباعه وعملائه (اشباه الرجال) انتهى الدرس ايها المتخاذلون الاغبياء ولنهتف جميعا بالدعاء: «يا نار كوني وسلاما على روح عبدك الشهيد محمد البوعزيزي ورفاقه الشهداء الابرار كما كنت بردا وسلاما على خليل الله ابراهيم عليه السلام». والعزة والمجد لتونس واللعنة لاعدائها الخونة المتخاذلين