*لقد أكّد السيد عياض بن عاشور في مجمل أحاديثه الصحفية، وحواراته التلفزيّة أنّ لجنة الإصلاح السياسي هي لجنة فنيّة أو مختصة، تضمّ مجموعة من أهل الاختصاص من المشهود لهم بالكفاءة والنزاهة، وأنّ مهمّتها الأولى هي مراجعة القوانين المنظمة للحياة السياسية «القانون الانتخابي، قانون الأحزاب، قانون الجمعيات، قانون الصحافة» لوضع مشاريع قوانين ديمقراطية، تنظم ممارسة الشعب لحقوقه الدستورية وتعوض القوانين الحالية التي استخدمت، ومنذ فجر الاستقلال، كأداة لمصادرة الحقوق، وتضييق الحرّيات بهدف الاستمرار في إعادة إنتاج النظام القائم، وتعزيز قدرات الحكم الفردي. أما المهمة الثانية فتتمثل في معاودة النظر في الدستور إما لوضع مشروع دستور نظام رئاسي حقيقي على غرار دساتير الأنظمة الرئاسية الديمقراطية، أو لوضع دستور نظام برلماني، وهو الخيار الذي تنحاز إليه جل النخب السياسيّة والثقافية وثلّة من أساتذة القانون. أما المهمّة الثالثة فتتمثّل، في عرض التوجهات والأفكار، والخيارات، ومشاريع القوانين، على الأطراف السياسيّة، ومكونات المجتمع المدني، للاهتداء برأيها في مرحلة إعداد مشاريع هذه القوانين أو العمل على تحقيق وفاق بين الأطراف السياسية وهيآت المجتمع المدني أو غالبيتها، حول هذه المشاريع حال انجازها. ومن البديهي في ضوء هذا التصوّر لمهام اللجنة ونهج عملها أن تقتصر عضويتها، على أهل الاختصاص، وأن تقتصر مهمة رجالات السياسة وممثلي المجتمع المدني على مدّها بالنصح. أعتقد أنّ في هذا التعريف لللجنة، وفي هذا التوصيف لطبيعتها تكمن كل الإشكاليات والأسباب، التي أثارت ريبة البعض وشكوكهم، حول أهداف بعث هذه اللجنة، والأدوار المناطة بعهدتها، وذلك لسبب بسيط، وهو أنّ هذا التصوّر للإصلاح السياسي الذي حدّدت اللجنة في ضوئه المهام المطروحة عليها، - والذي بدأت تعدّله أخيرا باحتشام- لا يأخذ في الحسبان، إن لم نقل يتجاهل الإشكاليات الكبرى التي طرحتها الثورة على بلادنا، في هذه الانعطافة التاريخية الحاسمة، وفي مقدّمتها إشكالية الشرعيّة، وهذا التجاذب الملحوظ بين الشرعيّة الثورية والشرعيّة الدستورية، أو بالأحرى هذا الصراع المحموم والمفتوح بين طرفين. الطرف المنخرط في منطق الشرعيّة الشعبية، والذي يرفض أنصاف الحلول ويدعو إلى مواصلة النضال الثوري لتغيير النظام تغييرا جذريا. وتندرج في هذا الإطار دعواته إلى إسقاط الحكومة المؤقتة، وحلّ الحزب الحاكم ومجلسي النواب والمستشارين، وتفكيك شبكات البوليس السياسي، وتطهير الجهاز الإداري ومؤسسات القطاع العام من رموز النظام السابق، ومن كل من يثبت تورطهم في الفساد المالي والسياسي... والطرف الذي يتمسّك بالشرعية الدستوريّة الشكلية الموروثة عن نظام بن علي، ويرى أن خصوصيات الثورة التونسيّة، والتي نعثر على جذورها في حقائق الواقع السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي الموروثة عن نظام حكم البلاد، ما يزيد على نصف قرن، تحتّم الأخذ بمقولة «التغيير في إطار الاستمرارية»، وتؤكّد ضرورة المرور بمرحلة انتقالية، توفّر فيها المجموعة الوطنية الشروط الموضوعية والذاتية للقطيعة مع النظام. أما الدعوة إلى القطيعة، دون مراعاة إشكاليات وإكراهات الواقع المشار إليه، فلا يمكن أن تؤدّي، في نهاية المطاف، إلاّ للفوضى وتهيّي بشكل أم بآخر، الظروف الملائمة لتصفية المكاسب الديمقراطية التي أنجزتها الثورة، وإقامة شكل جديد من أشكال الديكتاتورية. في تلافيف هذا الصراع اليومي والمعيش بين هاتين الرؤيتين، حول كيفية التعاطي مع الواقع السياسي الاستثنائي الذي فرضته الحالة الثورية والذي حسم أخيرا لصالح القوى المتبنيّة لمنطق الشرعيّة الثوريّة، تكمن خصوصيات الثورة التونسية وأوجه جدّتها واختلافها عن الثورات السابقة. الوجه الأول لجدّتها هو أنّ هذه الثورة الشعبية، التي قادها الشباب، هي ثورة عفوية وإن استندت إلى التراث النضالي للأجيال السابقة، واستلهمت أدبيات الفعاليات السياسية والاجتماعية التقليدية، واستفادت في خضم العملية الثورية من خبرات تلك الفعاليات التنظيمية والسياسية، مظهرعفويتها في افتقارها إلى خطة مسبقة، وقيادة موحّدة، وتنظيم قائد، وبرنامج محدّد. أضرم بوعزيزي الثورة فسرت في البلاد سريان النار في الهشيم. اللافت أنّ الجميع يتبني نفس المطالب، ويرفع ذات الشعارات، ويكشف ذات العناوين للاستبداد السياسي، والغبن الاجتماعي، والحيف الاقتصادي الذي تعاني منه، وإن بتفاوت، مختلف جهات البلاد، ومختلف فئات المجتمع. ومن هذه الزاوية، وفي هذا الإطار بالذات، تبدو عدم عفويّة هذه الثورة، إنها تفتقر لكل شروط التنظيم، كما سبق أن أشرنا، لكن هذا لا يطمس حقيقة أنها ليست عرضية فهي، في العمق، نتاج تراكم كم هائل من الحراك السياسي والنقابي والاجتماعي... الوجه الثاني لجدّتها واختلافها عن الثورات التقليديّة، هي قدرتها على تملك روح العصر، والأخذ بأسباب تمدّنه، مارس هؤلاء، كما كان الشأن في كل الثورات، مهمّات الدعاية، والتحريض، والتعبئة، والتأطير والتنظيم، ولكن بأدوات العصر وبروح العصر. لقد وظف الشباب التونسي، باقتدار، إبداعات ثورة الاتصالات وحوّلها إلى منظمّ جماعي للثورة فعبر نشر الخبر والصورة، والكاريكتير، والنقد اللاذع، والتعاليق الممزوجة بروح الدّعاية، نجح في تبليغ أخبار الثورة، وبثّ رسائلها، كما نجح، أخيرا، في تحويل نشطاته إلى جند من المراسلين يمدّون الفضائيات، ومختلف وسائل الإعلام، بمجريات الثورة، وتفاصيل أحداثها، وبفضل كل هذا تمكن من اختزال مسافة الوصول إلى هدفه الرئيسي، كما اختزلت ثورة الاتصال المسافات بين البلدان والشعوب. الخصوصيّة الثالثة هي أنّ هذه الثورة ولئن تفتقر إلى برنامج جاهز فقد تمكنت في الأثناء وبصفة عمليّة من إنضاج برنامج، وبلورة أهداف وغائيات الثورة، وشروط تحقيقها. لكن هذه المكاسب التي حققتها الثورة، على أرض الميدان، سواء منها ما يتعلّق بمسألة الشرعيّة، أو بملامح المشروع المجتمعي المنشود، تبقى غير كافية لتحقيق التغيير الثوري، لأنّ القوى التي قادت العملية الثورية وفي مقدّمتها الشباب لا تمتلك المرجعيات الفكرية ولا الخبرات السياسيّة والتنظيميّة، ولا القدرات الماديّة التي تتيح لها انجاز هذه القطيعة، بصفة فوريّة. هذه هي الإشكالية التي فرضت المزاوجة بين شرعيّة دستوريّة فاقدة، للمشروعيّة، وشرعيّة ثوريّة تفتقر للشروط التي تمكنها من وضع حدّ، وبصفة آنيّة، للنزاع بين الشرعيتين. فالتمسّك بالشرعيّة الدستوريّة حتّمه الخوف من الفراغ السياسي، ومخاطر الفوضى، والتطلّع لتأمين شروط الانتقال السلس للسلطة. كما أن النزول بسقف مطالب الثورة، وقبول التعاطي مع مؤسسات النظام القديم، يحتمهما افتقار قوي الثورة للإمكانات والقدرات، التي تسمح لها بتصفية مؤسسات النظام القديم، وإحلال بدائل ثوريّة محلّها على غرار ما حصل في الثورات الكلاسيكيّة. يتضح من مجموع هذه المفارقات أنّ قوى التغيير تتعاطي مع الشرعيّة الدستورية كإطار شكلي لممارسة العملية الثورية، أو بالأحرى، تشتغل داخل هذا الإطار للوفاء بمتطلبات التحوّل الثوري، وتأمين شروط بناء النظام الديمقراطي. وفي المقابل ترى القوى الاجتماعية، والنخب السياسية المهيمنة على مقدرات النظام، وبالتالي على مقدّرات البلاد، أنّ التمسّك بالشرعيّة الدستورية، خلال هذه المرحلة الانتقالية، والعمل على تمديدها يشكل فرصة ثمينة لتأمين شروط التغيير في إطار الاستمراريّة ودفع الثائرين إلى النزول عن سقف مطالبهم. في تلافيف هذه المفارقات نعثر على الخصوصيّة الرابعة للثورة التونسية، والتي تنسحب أيضا على الثورتين المصرية والليبية، وباقي الثورات التي قد تشهدها المنطقة ومناطق أخرى من العالم تشبه أنظمة حكمها الأنظمة السائدة بالبلدان العربية تتمثّل هذه الخصوصيّة في أنّ هذه الثورات العفوية، جاءت كبديل لأنظمة استبداديّة، استحال إصلاحها وتغييرها سواء من قبل المجتمعات السياسية التقليدية، أو من قبل الجماعات المسلّحة. إنّها ثورات، من نوع جديد، لقد كانت حضارة العولمة بأبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية، وفتوحاتها العمليّة والتكنولوجيّة، حاضنة هذه الثورات. اندلعت هذه الثورات من جهة أخرى، في ظلّ أنظمة تسلّطيّة وظّفت، وبمهارة، التكنولوجيات المعاصرة، وقسط مهمّ من موارد بلدانها لخلق بوليس سياسي قمعي، دوره الرئيسي حماية الأسر الحاكمة وشركائها، والتي نجحت، وفي ظرف وجيز، إلى تحويل طبائع أنظمة الحكم، من أنظمة استبداديّة، بالمفهوم التقليدي، إلى أنظمة عصابات «مفيوزيّة» تخدم المصالح الإستراتيجية للدول الكبرى في المنطقة، مقابل إطلاق أيديها لنهب البلاد، واستعباد العباد، هذا التوصيف، وكما كشفت الأحداث.، ينطبق على نظام بن على، كما ينطبق على نظامي حسني مبارك، ومعمر القذافي، والبقية تأتي. * صحفي ومحلل سياسي