بقلم : الهاشمي الطرودي لقد أكد رئيس لجنة الإصلاح السياسي وفي أكثر من مناسبة، أننا نعيش وضعية استثنائية، وأن متطلبات إيجاد حلول للمأزق السياسي والدستوري الذي تواجهه البلاد ولئن كانت لا تجيز القفز على الشرعية الدستورية والارتماء في المجهول، فإنها تحول دون التقيد الحرفي بالنص الدستوري، وتجيز الاجتهاد للبحث عن حلول لتجاوز ذلك المأزق. والسؤال هو لماذا تتيح الوضعية الاستثنائية، والظروف القاهرة، توسيع صلاحيات الحكومة المؤقتة وتمديد أجل إجراء الانتخابات، ونزع الوظيفة التشريعية من المؤسسة النيابية، لماذا الظروف القاهرة تتيح كل هذا وغيره، وتتوقف عن الانشغال عندما يتعلق الأمر بطبيعة «مجلس حماية الثورة» وصلاحياته، أو عندما يتعلق بالمطالبة بإضفاء الشرعية الشكلية عليه، وهي ذات الشرعية التي تتمتع بها الحكومة المؤقتة إذ لا يمكن لها الادعاء بأنها تمثل الشرعية الشعبية أو الثورة. نلاحظ، إذن، أن مواقف رئيس اللجنة يستلهم منطق الشرعية الدستورية الشكلية كلما تعلق الأمر بمقترحات مغايرة لخيارات الحكومة، أو بالأحرى، هو أميل للتعاطي مع متطلبات الواقع الذي أنشأته الثورة بسياسة المكيالين، فالظرف الاستثنائي وإكراهاته تبدو وكأنها تجيز الخروج عن الشرعية الدستورية حينا، وتحرمه حينا آخر، تضيق هامش الاجتهاد، وتتمسك حرفيا بالشرعية الدستورية حينا، وتغض الطرف حينا آخر. بينما الظرف الاستثنائي يستوجب، موضوعيا، العمل في إطار الشرعية الدستورية الشكلية دون الخضوع لمنطقها، كما يستوجب، في الآن ذاته، العمل على تكريس منطق الشرعية الثورية دون كسر إطار الشرعية الدستورية الشكلية، وهو الجدل الذي فرضته قوة الأشياء، وخصوصيات الثورة. إن «مجلس حماية الثورة»، ليس سلطة مضادة للحكومة كما ذهب إلى ذلك البعض، عن حسن نية أو سوء نية، وإنما هو، في الواقع، سلطة تكمل سلطة الحكومة، هي سلطة رقابية تتولى بالأساس وبالتعاون مع الحكومة المؤقتة الوظيفة التشريعية، أي المصادقة على التشريعات التي ستحدد، أحببنا أم كرهنا، مستقبل العملية السياسية بل مصير البلاد خلال المرحلة المقبلة. من هذه الزاوية كان ينبغي النظر لمسألة «مجلس حماية الثورة» والمعارضون الغيورون على الحكومة المؤقتة السابقة، والذين تمتلكهم الخشية من أن يحد هذا المجلس من صلاحياتها يرتكبون، في الواقع، خطأين أولهما إضفاء شرعية حقيقية على الحكومة المؤقتة، والرئاسة المؤقتة وهما تفتقران إليهما وبالتالي هم يشتغلون موضوعيا، لتشريع ديكتاتورية الحكومة ويسعيان لتفردها بالسلطتين التشريعية والتنفيذية وهو أمر لا يخلو من خطورة، لا لأنه يمنح السلطة المؤقتة صلاحيات التشريع، دون قيود، دون رقيب، وإنما لأن مستقبل العملية السياسية، في هذه المرحلة الانتقالية الحساسة بات عمليا- من مشمولات «السلطة المؤقتة، فهذه الأخيرة لها القول الفصل، وبمقتضى الشرعية الدستورية الشكلية في قبول أو رفض الإصلاحات الدستورية الجزئية أو مشاريع القوانين التي تقترحها. وحول كفاءة اللجنة -والتي كثر حولها اللغط- ينبغي أن نؤكد، ومنذ البدء، على أنه لا أحد يشك في كفاءة رئيس اللجنة وأعضائها، في المجال القانوني، فالجميع يشيد بذلك لكن هذا لا يعني، أن العمل المطلوب من اللجنة من الصعوبة بمكان، وأنها (باش تجيب الصيد من وذنو) على حد المثل العامي. فمشاريع القوانين المنظمة للحياة السياسية التي تقترحها، والتعديلات الدستورية التي قد توصي بها لن تكون، في نهاية المطاف، سوى اقتباسا من التراث القانوني عموما، وإعادة إنتاج لتراث المعارضة التونسية تحديدا، وللأفكار والمقترحات والمقاربات المهمة التي زخرت بها مداولات المجلس التأسيسي التونسي غداة الاستقلال (1956). ولا بد أن نشير، في هذا المجال، إلى أن المعارضة التونسية، قد أحصت، خلال فترة ازدهارها في الثمانينيات ومطلع التسعينيات، كل شيء عددا. بحيث يمكن القول، أنها ستوفر على اللجنة الكثير من الجهد، إذ أنتجت مادة ضخمة من مشاريع القوانين والتنقيحات، طالت مختلف التشريعات المنظمة للحياة السياسية كقانون الأحزاب، وقانون الصحافة، والمجلة الانتخابية، كما تضمنت جملة من المقاربات والدراسات حول الإصلاحات الدستورية وضمانات استقلالية القضاء، وشروط النهوض بالإعلام، وسبل تنمية الحياة السياسية إلى غير ذلك من القضايا. لقد كان هاجس هذه الأعمال هو كيفية بناء مجتمع ديمقراطي عادل. واكبت كإعلامي هذه الجهود المحمودة، وتكفي العودة إلى أدبيات أحزاب المعارضة، ولوائح مؤتمراتها والحوارات التي دارت حول تلك المسائل، طيلة العقود الثلاثة الماضية، والمثبتة في صحف المعارضة والصحف المستقلة، لنجد ما يجدي ويغني حول جل القضايا المطروحة على لجنة الأستاذ عياض ابن عاشور. كما ينبغي ألا ننسى التراث المهم للمحامين الذين دافعوا في القضايا السياسية والنقابية خلال العهدين، لم يهتموا بالفروع في دفاعهم بل سلطوا نبراس علوية الدستور والمواثيق الدولية على ترسانة القوانين التونسية الظالمة فحصحص من أقوالهم الحق وزهق الباطل. أسوق هذه الملاحظة لأني أعتقد، ومثلي كثر، أن استمرار الإشادة بكفاءة رئيس اللجنة وزملائه، وإلى حد المبالغة، والإيحاء بأن اللجنة «ستأتي بما لم يستطعه الأوائل»، ليس أمرا بريئا، إذ يبدو وكأنه مسعى للإيهام بأن الكفاءة هي بحد ذاتها- مصدر للشرعية، ومدعاة للثقة بهذه اللجنة، وتسليم الأمر لها، ولا يخفى ما في هذا الصنيع من محاولة لطمس الإشكاليات المتعلقة بتركيبة اللجنة ومهامها وأيضا بتشابه مقاربتها للإصلاح السياسي، إن لم نقل بتطابقها مع مقاربة أولي الأمر وأجنداتهم. أما المهمة الثانية للجنة فتتمثل في اقتراح إصلاحات دستورية، أو بالأحرى، وضع مشروع دستور جديد. ولا جدال أن اللجنة تجد نفسها، لمعالجة هذه القضية، أمام خيارين: أولهما: القيام بتعديلات واسعة على الدستور الحالي بهدف تحويله من دستور رئاسي «ديكتاتوري» إن صح التعبير إلى «دستور رئاسي ديمقراطي» على غرار الدساتير الرئاسية الديمقراطية وفي مقدمتها الدستور الأمريكي، ويتم ذلك لا بتنقيته، فحسب، من المواد، والمداخل، والثغرات،التي أسست لنظام الحكم الفردي، وصادرت عمليا- مبدأ السيادة الشعبية، وإنما تحريره أيضا من «فلسفة السلطة المطلقة أو شبه المطلقة» التي شكلت نسيجه الداخلي، وكانت خلف مجمل التنقيحات التي أدخلت عليه، سواء في العهد البورقيبي، أو في عهد ابن علي. عندما نراجع مداولات المجلس التأسيسي نكتشف بوضوح ملامح هذه النزعة التسلطية، ونتبين أن دستور 1959 كان ثمرة صراع غير متكافئ بين تيارين: تيار ديمقراطي أقلي يتزعمه الحكيم محمود الماطري والذي سعى جهده، لتوجيه، أشغال المجلس لوضع دستور رئاسي ديمقراطي، يرعى الحريات، ويقوم على مبدأ توازن السلطات، وتيار أغلبي بزعامة الباهي الأدغم، وبدفع من بورقيبة، دفع في اتجاه تمركز السلطة مرسيا بذلك أساسات الحكم الاستبدادي، الذي عانت منه البلاد طيلة العهد البورقيبي والذي تحول على أيدي بن علي وعصابته إلى نظام حكم مافيوزي. أردنا من هذا الاستطراد التأكيد على أن اللجنة ستقف، عند العودة إلى هذه المداولات، على كل الثغرات والمداخل، وأيضا على الرؤى والخلفيات، التي أسست للسلطة المطلقة، وكرست اختلال التوازن بين السلطات، وشرعت مصادرة الحريات، وتدجين المجتمع المدني، وإلغاء فكرة المواطنة، كما ستكتشف من اعتراضات الاتجاه الديمقراطي، والمقترحات التي تقدم بها حول مجمل تلك القضايا، والتي رفضت بصفة منهجية، ملامح الدستور الرئاسي الديمقراطي، الذي كان ينشده هذا الاتجاه. ثانيهما: اختيار النظام البرلماني وهو الخيار الذي تحبذه جل الفعليات السياسية، وهيئات المجتمع المدني. وفي صورة إقرار هذا الخيار فإن اللجنة مدعوة لوضع مسودة دستور نظام برلماني على غرار دساتير الجمهوريات البرلمانية. والملكيات الدستورية، وحتى هذه الحالة فالمجلس التأسيسي وفر على اللجنة الكثير من الجهد، إذ تكفي العودة إلى مسودة الدستور، التي وضعها المجلس قبل إلغاء الملكية، لتقف على معالم النظام البرلماني، ومن ثمة فإن اللجنة ليست مطالبة بأكثر من تحيين النص، وتعديل بعض مواده وإثرائه بمواد جديدة إن لزم الأمر. ما نود التأكيد عليه من الإشارة إلى هذه المعطيات، هو أن المطلوب من لجنة خبراء كهذه ليس بالأمر العسير، ولا يستدعي طرزه، على حد العبارة الأثيرة للسيد عياض بن عاشور، الكثير من الوقت والجهد، ففي أسابيع قليلة، قد لا تتجاوز أصابع اليد، يمكن انجاز كل ما هو مطلوب في هذا المجال. وهذا يحملنا مرة أخرى، على التأكيد بأن المشكل الحقيقي، والذي تتم مجانبته بالتشديد على هذه المسائل، هو المأزق السياسي والدستوري الذي أدت إليه الحالة الثورية التي تعيشها البلاد لأن الطريقة التي سيتم بها حل هذا المأزق ستوضح هل أن الأحداث تسير في اتجاه تعزيز منطق الشرعية الثورية، وتستجيب لمتطلباته أم تسير في اتجاه منطق النظام القائم، والمحافظة على مقوماته ؟