جاء مشروع القانون الخاص بالنظام الانتخابي الذي وضع مواده الأساتذة قيس سعيد والصادق بلعيد وهيكل بن محفوظ، والذي انفردت "الصباح" بنشره أمس، في التوقيت المناسب. فقد سبق الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة التي عهد إليها بوضع قانون انتخابي للمجلس التأسيسي، كما استبق المناقشات حول النظام الانتخابي الممكن اعتماده خلال الانتخابات المقررة في جويلية القادم، والتي انطلقت بشكل محتشم منذ بضعة أيام في بعض الدوائر الحزبية والسياسية، وصلب الحكومة، بل بين النخب والمتخصصين في القانون الدستوري. والحقيقة أن هذا النص/ المبادرة، الأولى من نوعها منذ الإعلان عن انتخاب مجلس تأسيسي، سيكون بلا شك نقطة انطلاق ورشات تفكير متعددة بخصوص نوعية النظام الانتخابي الذي سيتم اختياره للبلاد، وهو النظام الذي سيحدد وجهة التونسيين في اختيار من يمثلهم خلال المرحلة المقبلة، التي ستكون شديدة الحساسية، باعتبارها ستحدد شكل الحكم ومضمون الدستور وهوية القوانين المنظمة للحريات بجميع أنواعها، وهو ما سيتكفل به المجلس التأسيسي لاحقا، لذلك يبدو النظام الانتخابي المزمع سنّه خلال الفترة المقبلة، أحد أهم النصوص التي ستقدم للرأي العام التونسي والمراقبين الدوليين، فكرة عما إذا كانت تونس قد قطعت نهائيا مع المرحلة السابقة بانتخاباتها المزورة، وقوانينها الانتخابية اللاشعبية، ومجالسها التشريعية المنصبة "تنصيبا انتخابيا"، أم أن ذلك أمرا ما يزال في دائرة الممكن الذهني فحسب؟ ثمة ثلاثة سيناريوهات تتوزع الرأي العام السياسي والحزبي والنخبوي في البلاد: سيناريو نظام الاقتراع بالقائمات، الذي ينتقده البعض لأنه سيكرس منطق الأغلبية، ويقصي حق الأقليات و"الحزيبات" الصغيرة أو يقلل من تمثيليتها، بما يفتح الباب لهيمنة طرف سياسي على بقية الأطراف الأخرى، وهو ما قد يمهد لعودة الاستقطاب الثنائي بين طرفين سياسيين يستحوذان على المؤسسات التشريعية والتمثيلية دون بقية الأطراف. وسيناريو ثان، يقضي باعتماد النسبية في القائمات، وهي الصيغة التي كرست حكم التجمع الدستوري الفاسد لمدة تجاوزت العشرين عاما، بما جعل الأحزاب السياسية تعيش تحت مظلته خلال تلك الفترة. أما السيناريو الثالث، والذي طرحته "الترويكا" الجامعية إن صح القول (قيس سعيد والصادق بلعيد وهيكل بن محفوظ)، فيقترح صيغة "الاقتراع على الأفراد"، التي يرى واضعوه، أنه الصيغة الأنسب لتونس في هذه المرحلة، والأكثر جدوى وتمثيلية للتونسيين، خصوصا بعد ثورتهم التي لم تقدها زعامات أو أحزاب، ومن ثم يفترض أن تخضع انتخابات المجلس التأسيسي، إلى نظام اقتراع يعيد السيادة للشعب التونسي، ويمنح الشبان والشابات في الجهات والولايات وفي كل شبر من البلاد، من الترشح من دون أن يرتهنوا للأحزاب أو للأجندات السياسية التي ستكون بزخم غير مسبوق في تونس، بل من دون أن يعيقهم المشهد الحزبي على أن يكون لهم موقع في المجلس التأسيسي، الذي كان مطلبا أساسيا لمعتصمي القصبة ومناطق عديدة من البلاد. تونس في لحظة فارقة من تاريخها، والقانون الانتخابي المتعلق بانتخابات المجلس التأسيسي، هو المحدد لسؤال بدأ يؤرق التونسيين: هل يمثل حالة قطيعة مع الماضي؟ وهل ترتقي الأحزاب ومكونات المشهد السياسي إلى مستوى ما بعد "اللحظة الثورية" الراهنة، وبعيدا عن الحسابات الضيقة، والمعادلات التكتيكية التي يمكن أن تجعل "التغيير الراديكالي" أمرا مؤجلا؟