عمر بنور أنا متشائل ولكنني لست "سعيدا أبا النحس" بطل رواية "إميل حبيبي"، أنا مواطن تونسي. أنا متشائم لأنني أرى ملامح التونسي الأصيل تتلاشى وتمحي، أمشي في الشارع فلا أعرف هل أنا في الدنمارك أم في أفغانستان؟ هل أنا في هولندا أم في إيران؟ أنا متشائم من ازدياد عدد الجياع والمحرومين والعاطلين عن العمل والباحثين عنه ومن بروز جماعات في المقابل تعيش ترفا فكريا وصراعا إيديولوجيا بين اللائكية والإسلامية والعلمانية والدينية والإلحاد والسلفية إلخ...جماعات «إرهابية» من أقصى اليمين تريد فرض وجودها وإلغاء الآخر باستعمال العنف المادي، وجماعات «إرهابية» من أقصى اليسار تريد هي أيضا مكانا تحت الشمس باستخدام العنف الفكري إن صح التعبير. والجماعتان اتخذتا من المبادئ الكونية وحقوق الإنسان مطية لإلغاء الآخر فأساءتا استعمالها كما خابتا في اختيار التوقيت المناسب من حيث تدريان أولا تدريان، فوقعتا في المحظور، وذهبتا كصرخة في واد، لأن الناس منشغلون عنهما فيما ينفعهم. «فأما الزبد فيذهب جفاء». أنا متشائم من ثورة اغتصبها السياسيون والمفكرون والانتهازيون بعد أن أنجزها شباب شعر بالتهميش والإقصاء، شباب متعلم وغير متعلم، شباب عامل وشباب يطلب العمل كحق وكقيمة إنسانية، شباب كلهم يطلبون تأصيلا لكيانهم، لكنهم وجدوا أنفسهم خارج الميدان. أنا متشائم من ثورة أنجزها شباب طلبا للعدل والحق وتكافؤ الفرص فاستولى عليها القضاة والمحامون وأنصاف المثقفين و أشباه المبدعين. أنا متشائم من ثورة أنجزها شباب ضاق ذرعا بالاستبداد والظلم، فاستولت عليها قوات الأمن التي أصبحت تقتحم مقرات وزارة الداخلية وتحتل الولايات. أنا متشائم من ثورة أنجزها شباب يطلب فتح الآفاق لمزيد طلب العلم والتألق، فيتقدم عليهم متعلمون جاحدون ينتقدون النظام التربوي ويتهجمون على المدرسة والمربين وينسون أنهم من نتاجها. أنا متشائم من ثورة أنجزها شباب يريد إسماع صوته وإبداء رأيه فيصادرها مذيعون ومنشطون في الإذاعات والتلفزات يحرمون المواطن من حقه في حرية التعبير وكأنهم لم يحرموا هم منها من قبل. وبين عشية وضحاها أصبحوا يدّعون في السياسة معرفة وفي الاقتصاد خبرة وفي الثقافة اختصاصا وهم جاهلون بقواعد الحوار تنقصهم الخبرة وتعوزهم الحرفية ويعوقهم التكوين. أنا متشائم من ثورة أنجزها شباب لا يؤمن بإديولوجيات بائدة ونظريات خائبة، وإذا بثورته تنجب أحزابا في نسخ مشوّهة تحيي مذاهب من موات وتبعث اتجاهات بعد بوار، لا برامج لها هادفة ولا أهداف لها طموحة، همّها الوحيد سعي إلى الكراسي، وهرولة إلى المناصب. أنا متشائم من ثورة أنجزها شباب طلبا للعمل، وإذا بالشغالين من عملة وموظفين يعتصمون ويضربون وفي نهاية الشهر يجدون رواتبهم كاملة وفوقها منحة الإنتاج، فلماذا يعمل الآخرون؟ أنا متشائم من ثورة أنجزها شباب طلبا لتطبيق القانون وإشاعة العدل بين الناس، وإذا بالناس يتجاوزون القوانين ويستولون على كل ما هو «بيليك»وخاص. أنا متشائم من ثورة أنجزها شباب من أجل البناء والتشييد، وإذا بالناس يحرقون ويخربون الممتلكات العامة والخاصة من مدارس وبلديات ومستشفيات. أنا متشائم من ثورة أنجزها شباب ضد الظلم وممارسات المليشيات، وإذا بالناس يصبحون قطاع طرق و ماء وغاز. أنا متشائم من ثورة أعجب بها العالم ولم تعجب أصحابها، ثورة انبهر بها الآخر ولم تشدّ إليها أصحابها، ثورة أدرك العالم أبعادها وتداعياتها ولم يفهمها أصحابها، ثورة اتفق أهلها جميعا على إجهاضها وإفشالها فكأنها قامت في كوكب آخر، أو في عالم بعيد عنا، نسمع الغير يتكلم عنها فنشعر وكأننا لسنا المعنيين بما يقال. فهل نحن من قام بالثورة أم قوى خفية من عوالم أخرى نجهلها قامت بها؟ ولكن وإن كنت متشائما تشاؤم شقّ من الناس أو كنت متشائلا تشاؤل البعض الآخر، فأنا في الحقيقة متفائل لأن الثورة وقعت فعلا. و»إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة «. * متفقد عام للتربية