المحاكمات التسطيحية لرموز النظام السابق تطمس تهمة الخيانة العظمى حوار آسيا العتروس أبدى السيد محمد علي الحلواني احترازه من مسلسل المحاكمات التسطيحية لرموز النظام السابق معتبرا أنها تطمس البعد السياسي العميق لجريمة الخيانة العظمى التي اقترفها المخلوع ورموزه، وأضاف السيد محمد علي الحلواني أن الوضع السياسي في البلاد يقتضي الخروج من ايديولوجية حكومة تصريف الاعمال أو حكومة المرحلة الانتقالية الى ما يمكن تسميته بمقولة حكومة أزمة. ودعا في حديث خص به "الصباح" الى تشكيل حكومة ائتلافية تكون بمثابة حكومة انقاذ وطني. كما أعرب السيد محمد علي الحلواني الجامعي والمحاضر الذي يتذكره جل التونسيين خلال ترشحه للانتخابات الرئاسية كمرشح عن حركة التجديد والمبادرة الديمقراطية لرئاسة الجمهورية في 2004 عن مخاوفه من سيطرة الخوف على الناس وعلى السياسيين. وقال أخصائي الفلسفة ان مشاهد الاحتجاج والفوضى الظرفية التي تشهدها البلاد ليست دليلا على فشل الثورة أو حجة ضد مشروعيتها. وانتقد الحلواني في الحديث المشهد الاعلامي الراهن معتبرا أن الاعلام لا يزال سجين تصورات مهنية بالية تجعله لا يرقى الى نوعية أفضل.وخلص السيد محمد علي الحلواني إلى ان مشاركته في الانتخابات الرئاسية في 2004 كانت فرصة خاضت فيها المعارضة انذاك صراعا سياسيا على أعلى هرم السلطة لكسر الحواجزالنفسية والامنية والسياسية التي وضعها النظام السابق ضد كل محاولات زعزعة أركانه وفضح أسس الاستبداد فيه.وفيما يلي نص الحديث الذي أردناه مناسبة لتقييم المشهد بعد ستة أشهر على ثورة الرابع عشر من جانفي التي غيرت مسار تونس وشرعت الابواب أمام الشعب لتفعيل ارادته من أجل تحقيق الديموقراطية المنشودة.
هل من تقييم للمشهد السياسي اليوم في البلاد بعد ستة أشهر على الثورة وفي ظل طفرة الأحزاب السياسية والتجاذبات الحاصلة بين مختلف الاطياف؟
ليس من السهل، تقييم المشهد السياسي اليوم خاصة أن الوضع بات متأرجحا بين ماض مازالت آثاره إلى حد ما باقية، ومستقبل ما زلنا نأمل قدومه، ولكن من الواضح أن المجتمع التونسي نجح إلى حد هذه اللحظة في السيطرة النسبية على عوامل التفرقة والهدم التي تلحق البلدان عادة عندما تنتفض شعوبها وتثور ضد الطغيان. وهذه بالنسبة إلي نقطة مضيئة في سماء تونسنا الحبيبة لأننا أنجزنا ثورة مدنية فريدة من نوعها، يعز علينا المحافظة عليها وانجاز أهدافها. وإنما أقول هذا وأؤكد عليه لكي لا يذهب إلى الظن أن بعض مشاهد الاحتجاج أو الفوضى الظرفية دليل على فشل الثورة أو حجة ضد مشروعيتها وضرورتها. ولهذا السبب أعتقد أيضا أن التجاذبات الموجودة بين الأحزاب السياسية ظاهرة طبيعية وصحية في ضوء انفتاح المناخ الديمقراطي الجديد الذي يسمح بهذا النوع من التنافس بعد أن حُرمنا منه زمنا طويلا، بينما هو ضروري في بناء تعددية سياسية سليمة لمجتمع حداثي أصيل، شريطة أن تعمل بطبيعة الحال كل الأطراف على إنجاز وفاق وطني واسع يراعي الصالح العام ويصون المكتسبات التقدمية لشعبنا.
المشهد الاعلامي
وماذا عن المشهد الإعلامي هل استطاع مواكبة التحولات أم أن إعلامنا لا يزال في حالة مخاض عسير بعد تحرره من قيود الرقابة؟
حقا، إن الإعلام مثل ما تقولين، في حالة مخاض عسير وهذا أمر لا يُستغرب منه بالنظر إلى الدورالذي كان يلعبه هذا القطاع سابقا.أو لم يكن الحارس الأمين لدولة الظلم والتعسف واستغلال النفوذ؟ لذلك لابد له من فترة نقاهة واسترداد قوة تؤهله للعب أدوار جديدة لم يعرفها من قبل، تتمثل في نشر الإعلام الحر والنزيه والمستقل عن كل" لوبيات" السيطرة على القرار. وعلى أية حال، هنالك تحسن ملحوظ في أداء الإعلاميين باعتبارأن السلطة آخذة في التخلص تدريجيا من آليات الرقابة القديمة. ولكن رغم هذا المجهود يبقى الإعلام الوطني في كل مستوياته سجين تصورات مهنية بالية لا تجعله يرقى إلى نوعية أفضل، من شأنها أن تفجر طاقات الإبداع الكامنة فيه وتخرجه من بوتقة الرداءة التي تملي على الإعلاميين التحرك إلى حد الملل، في نطاق دائرة ضيقة من الفاعلين السياسيين دون سواهم. ألهذا الحد يا ترى، خلت الساحة التونسية من المناضلين ليظل المشهد الإعلامي الوطني حكرا على أقلية نصبت نفسها لسان حال الجماهير؟ أعني هؤلاء الذين باتوا "كالملح في الطعام لا يغيبون على برم" كما يقول المثل الشعبي، بينما تزخر الساحة بمئات المناضلين الذين وضعوا بجدارة بصماتهم على تاريخ تونس المعارضة للطغيان ولكل أوجه التخلف.
هل يتخوف السيد محمد علي الحلواني على مستقبل الثورة ومحاولات الشد إلى الوراء ؟
في الحقيقة أنا لا أتخوف من شيء أكثر من تخوفي من سيطرة الخوف على الناس وعلى السياسيين بصفة أخص، أعني الخوف إلى حد الهوس من كل شيء، من جيوب الردة وحتى من الثورة ذاتها! بل ما أستغرب منه في واقع الأمر هو وقوف القيادات السياسية موقف المتفرج حيال انحراف المسار الثوري بتعلة الحيادية السياسية المطلقة ترقبا لما ستفرزه الانتخابات، بينما يقتضي الأمر أخذ زمام المبادرة لمعالجة الأوضاع الصعبة عن كثب. ولا يكون ذلك ممكنا في تصوري، إلا بتنزيل البعد السياسي للثورة المنزلة القيادية التي تليق به صلب هياكل التسيير في الأجهزة العليا للدولة، لأن المرحلة التي يتسم بها الوضع السياسي والاجتماعي في البلاد تقتضي من القيادة الوطنية للدولة الخروج من إيديولوجية "حكومة تصريف الأعمال" أو حكومة المرحلة الانتقالية إلى ما يمكن تسميته بمقولة حكومة-الأزمة، لأن تصريف الأعمال ليس في الحقيقة من مشمولات حكومة جاءت نتيجة أزمة ثورية وإن كان تصريف الأعمال في حد ذاته عملا روتينيا ضروريا بالنسبة إلى كل حكومة، كما أنه ليس أيضا من مهام حكومات ما بعد الثورة تأمين الانتقال فقط من وضع إلى وضع آخر. فلا الوضع هو بالطبيعي إلى درجة أنه يستدعي حكومة تكنوقراط، ولاهو بالانتقالي العادي لأن وتيرة مراحل الثورة غير معروفة وأطوارها غير مضمونة. وقد يستدعي بدون شك، التفكير في حكومة-أزمة مراجعة جذرية لطبيعة مسار ما بعد الثورة ولأدوات تنفيذ مطالب الثورة ولسبل الانتقال نحو الديمقراطية أيضا، وحينئذ مراجعة جذرية للنوعية السياسية للحكومة التي من واجبها القيام بهذا الدور. وهذه دعوة إلى تشكيل حكومة ائتلافية هي بمثابة حكومة إنقاذ وطني.
محاكمة رموز النظام السابق
ماذا تعني محاكمة المخلوع غيابيا بالنسبة لتونس ولمسيرة الديمقراطية؟
فلئن كنت من أحرص الناس على مبدإ فصل السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية إلا أني أحترز كثيرا من مسلسل المحاكمات التسطيحية لرموز النظام السابق. وأعني بذلك أنه وقع تناول هذه المحاكمات من زاوية تطمس البعد السياسي العميق لجريمة الخيانة العظمى التي اقترفها المخلوع وزمرته الفاسدة في حق هذا الشعب، وذلك بتبريرالقضايا وبتأجيل أكثرها وطأة على الجمهور، مما يثير تساؤلات كثيرة حول الدوافع الحقيقية لهذا السلوك الغريب الذي يزيد تأجيج فتيل الغضب من أصحاب الحق الشرعيين بدون مبرر مقنع. أليس من حق هذا الشعب أن يحاكم الطغاة عن الجرائم السياسية التي اقترفت في حقه؟
وماذا بشأن قرار منع مشاركة التجمعيين من الترشح للانتخابات وكيف يمكن تحقيق المصالحة الوطنية بعيدا عن لعبة المحاكم الشعبية؟
أن يُمنع التجمعيون من الترشح لانتخابات المجلس التأسيسي القادم فهذا في نظري مطلب شعبي مشروع بالرجوع إلى الضررالذي ألحقوه بحق أبناء هذا الوطن وذلك بتورطهم المفضوح في القيادة السياسية لحزب، يعرفون هم قبل غيرهم، أنه حزب-عصابة، مبني على الفساد بكل أشكاله. وبناء على ذلك، فإني لا أرى مبررا لتبرئتهم من هذه التهمة الخطيرة، وعليهم أن يتحملوا تبعا لذلك، مسؤولية ما اقترفوه سياسيا أو عند اللزوم قضائيا، غير أني أتفق مع الرأي السائد، وهو في اعتقادي رأي سديد أيضا، من أن التورط السياسي تورط من نوع خاص، يجب الانتباه إلى خصوصيته وأخذه بعين الاعتبار من زاوية الالتباسات الإيديولوجية المؤثرة في السلوكات السياسية، فضلا عن الحيثيات الإدارية والاجتماعية القاهرة التي قد تكون تدفع إليها دفعا؛ مع الإضافة أن حرية الانخراط في أحزاب أخرى يجب أن تبقى متاحة قانونيا للمنخرطين السابقين في التجمع إذا كانوا بطبيعة الحال أبرياء من كل تورط مع النظام السابق يمكن تجريمه قانونا.
انتخابات 2004
عشت تجربة انتخابية في ظل نظام المخلوع كيف كانت التجربة وما هي نوع الضغوطات التي واجهتها وهل سبق أن التقيت المخلوع وجها لوجه قبل الانتخابات وماذا طلب منك؟
كنت قد خضت بالفعل الانتخابات الرئاسية لدورة 2004 كمرشح عن المبادرة الديمقراطية وهي جبهة سياسية ضمت وقتها بالإضافة إلى حركة التجديد عددا من المكونات السياسية المعارضة الأخرى وأعدادا كبيرة من الناشطين السياسيين المستقلين والحقوقيين والنقابيين. وكانت هذه الانتخابات فرصة خاضت فيها المعارضة التونسية لاول مرة صراعا سياسيا واضحا على أعلى هرم السلطة، وكان الهدف من ذلك كسر الحواجز النفسية والأمنية والسياسية التي وضعها النظام السابق ضد كل محاولات زعزعة أركانه وفضح أسس الاستبداد فيه. وقد كانت هذه المعركة في تقدير الكثيرين تجربة ناجحة ومفيدة من حيث كونها أطاحت اللثام عن قدسية النظام المزعومة، وكشفت عن هشاشة ركائزه داخل المجتمع وحتى صلب هياكله الحزبية، بدليل المساندة منقطعة النظير التي عبرت عنها الجماهير من مختلف الشرائح والفئات رغم ما عمد إليه النظام السابق من تزييف واسع لنتائج الانتخابات وعرقلة مجرياتها بشتى أنواع التضييق والمحاصرة، وصلت إلى حد منع توزيع البيان الانتخابي للحملة الرئاسية. ولكن، خلافا لما جاء في سؤالكم، لم يسبق لي أن التقيت الرئيس المخلوع البتة. لا من قريب أو من بعيد.أو تظنين بحق أنه كان يرغب في ملاقاة من عمل على زعزعة أركان عرشه ونقض مزاعمه علنا في كل أنحاء البلاد باعتراف التجمعيين أنفسهم؟ فما أرى أناسا بخسوا ما أنجزته المبادرة الديمقراطية إلا نفرا قليلا من المعارضين الصفويين" الذين أزعجتهم حملتنا القانونية والميدانية الناجحة ضد الدكتاتورية. واستخلاصا لكل ذلك، فنحن أبناء المبادرة الديمقراطية سنبقى أبدا فخورين بأننا من طلائع هذا الشعب الذين ساهموا بنضالهم وشجاعتهم في رسم آفاق تونسالجديدة.
أزمة مفتعلة
كيف ينظر السيد محمد علي الحلواني إلى الأزمة التي نشأت في أعقاب تصريحات المفكر محمد الطالبي وما اثارته من ردود فعل وهل هي مؤشر على ظاهرة صحية أم أزمة فكرية؟
هي في تصوري أزمة مفتعلة تساهم بقسط كبير في تسميم الأجواء السياسية في البلاد وفي تعكيرها إلى أقصى الحدود. أيعجبك سيدتي نزول كبار القوم وعقلائهم إلى مستوى العامة من الناس، فيقحمونهم في قضايا تقنية أو علمية ليست لهم بها دراية أو إحاطة، خصوصا إذا كانت مسائل دينية أو عقائدية معقدة ودقيقة، يسهل من خلالها التغليط والتشويش، بيد أن ما هو متفق عليه من سالف الزمان في الفقهيات وعلوم الدين كلها، هو وجوب عدم الخلط بين علوم الخاصة المقصورة عن أئمة القوم والراسخين في العلم من جهة، وبين المعارف التي هي في مستطاع العامة من الناس، اتقاء للفتنة بين الأفراد والفئات. والرأي عندي أن يتقي العقلاء شر الفتنة بالالتزام بالحكمة والاتزان وسبل الرشاد، وأن يلجأ رجال السياسة في نضالهم إلى توضيح رؤاهم المجتمعية وتقديم برامجهم للشعب بعيدا عن المزايدات والصراعات الإيديولوجية المفتعلة، تلك التي تثير الانفعال والتشنج وترمي بالبلاد في متاهات المجهول كما ترسخ في نفوس الأغلبية عزوفا عن السياسة، والحال أن انخراط الجميع في العمل السياسي والمشاركة الفعلية في إرساء مجتمع ديمقراطي حداثي يصون الحقوق ويحمي الحريات، هما من أوكد أهداف ثورتنا المجيدة.