بقلم الأستاذ: محمد الحبيب الأسود لقد عاشت تونس بعد معاهدة 20 مارس للاستقلال، حركية سياسية نشيطة تجاذبت أطرافها ثلاثة تيارات فكرية، تقاسمت الأدوار بين السلطة والمعارضة والعمل السري، وهي اللائكية التغريبية ذات صبغة شبه ليبرالية، وتزعمها بورقيبة وثلة من رفاقه ومسكوا بها السلطة، ( ولم ير بورقيبة بأسا أن يتعامل في حكمه مع اشتراكية أحمد بن صالح في تجربة التعاضد، ومع نزعة المزالي العروبية في تجربة التعريب). والتيار القومي العروبي الذي يشمل اليوسفيين والقوميين العرب والبعثيين على قلتهم. ثم اليسار الشيوعي الذي بحكم معاداة المعسكر الغربي الرأسمالي وحلفائه للحركة الشيوعية العالمية، ركن إلى السرية وإلى النشاطات الجامعية لتأطير الطلبة ونشر المذهب الشيوعي في أوساطهم...أما عن التيار القومي، فقد أفرزت الايدولوجيا القومية واقعا عربيا اتسم بالصراع والانشقاق والعداء. فلا أفلح جمال عبد الناصر بعروبيته الناصرية في توحيد العرب وجعلهم أمة واحدة، ولا استطاع ذلك البعثيون في كل من العراق وسوريا، ولا كان للشعارات الوحدوية لزعيم ليبيا المشكوك في نسبه أي صدى بين العربان. بل إن القومية العربية أحدثت شروخا بين العرب وصارت عامل تفرقة لا وحدة ولم تفلح كل المحاولات الوحدوية تحت هذا اللواء بل إننا لم نر عداوة بين العرب مثلما هي بين البعث العراقي والبعث السوري، ولا رأينا دسائس ومؤامرات تحاك ضد أمن واستقرار المجتمعات العربية كما رأيناها تحاك من قبل زعماء القومية العربية ضد إخوانهم في العروبة والإسلام وكان الفشل ذريعا، ولقيت القومية مصرعها حين تخاذلت في حرب 1967 ضد اليهود، ثم دفنت في الحرب الأهلية في لبنان بمعاول الطوائف الدينية وعلى هذا الحال تقلص فعل القوميين العرب في تونس وتدنى نشاطهم إلى ما يشبه التظاهرات المحتشمة في بعض الفضاءات الجامعية وذلك لحساب الحركة الشيوعية بفصائلها الماركسية واللينينية والماوية والألبانية، الذين هيمنوا طيلة الستينات والسبعينات على نشاط المعارضة السياسية في تونس فبرزوا كحركة يسارية شعبية وطلابية تهتم بمشاغل العمال والطلبة، وناضلوا في صفوف الشعب -تلامذة وطلبة وعمال- منادين بالمساواة الاجتماعية وعدالة توزيع الثروة وقدموا في سبيل ذلك التضحيات الجسام ونالوا نصيبهم من القمع والتعذيب والسجون والتهجير والنفي. إلى أن بدأ المد الإسلامي ينمو في النصف الثاني من السبعينات بعد أن كان تيارا دعويا مجاله المساجد، ليتطور إلى حركة سياسية منظمة تطرح نفسها على الساحة السياسية والعمالية والطلابية كمعارضة لسياسة الحكم في قضايا المجتمع والاقتصاد والثقافة... وبحكم التناقض العقائدي بين المرجعية الإسلامية التي تجعل من الإسلام دين يقظة وحركية دائمة وأداة تغيير نحو الأفضل في المجال السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي، والمرجعية الشيوعية التي تقول بأن لا إله والحياة مادة، وأن الدين أفيون الشعوب، وأن لا سبيل لسعادة البشر إلا في ظل دكتاتورية البروليتاريا، اشتد الصراع بين التيارين إلى حد العنف والاقتتال بالأسلحة البيضاء في الكليات والمبيتات الجامعية.. فالتيار الإسلامي كان يسعى لفرض وجوده على الساحة الطلابية بالمشاركة والعمل السياسي والطلابي الحر. والتيارات الشيوعية كانت تسعى للحفاظ على هيمنة اليسار الشيوعي على الجامعة وإقصاء ما يسمونه ب " الرجعية" وعدم السماح للتيار الديني بالعمل السياسي حتى لا يعلو أي صوت فوق صوت الرفاق الشيوعيين. وفي ظل هذا الصراع شهدت الجامعة التونسية أحلك فترات العنف والعنف المضاد. وكان لزاما بسنة البقاء للأقوى أو للأصلح، أن ينتصر أحدهما على الآخر. وفعلا أعلن اليسار ضعفه وإفلاسه أمام المد الإسلامي المتسارع، وكان ذلك إثر مجزرة منوبة عام 1982 التي عمد إليها اليسار الشيوعي بكل فصائله وحشوده التي قدمت من كل الأجزاء الجامعية حاملة السلاسل والقضبان والأسلحة البيضاء دون سابق إنذار، وبتواطؤ مع النظام البورقيبي، حيث طوق البوليس جامعة منوبة ومنع دخول المدد للإسلاميين أو إجلاء جرحاهم. فكانت مجزرة حقيقية راح ضحيتها عشرات المصابين إصابات بليغة. وبهذه المجزرة أعلن اليسار الشيوعي إفلاسه، وتقهقر فعله لصالح المد الإسلامي بمختلف أنشطته السياسية والثقافية والاجتماعية. وهيمن الإسلاميون بدورهم على الجامعة طيلة الثمانينات، وعاش الطلبة في عهدهم نفسا من الحرية والعمل الديمقراطي دون إقصاء لأحد... وجاءت ثورة 14 جانفي لترج الثابت والمتغير في فكر ومرجعية اليساريين الشيوعيين. حيث وجدوا أنفسهم أمام ثورة غريبة الحركة وعجيبة الصنع في القيادة والأداء و الأسلوب، وليس لهم فيها ناقة ولا جمل ولامزية ولا عمل، كغيرهم من الأحزاب و الحركات السياسية. فاندفعوا من رفاتهم بانتهازية بالغة وفعالة للسطو على المواقع القيادية، سواء في فلك السلطة الانتقالية أو الهيئات واللجان شبه التشريعية المؤقتة، مستغلين في ذلك الفراغ القانوني والدستوري الذي أحدثته الثورة بهروب بن علي المخلوع. وما كان تهافتهم على المواقع وسطوهم على المسؤوليات الإدارية والأمنية، وكذلك تحالفهم مع الليبراليين واللائكيين، إلا تعبيرا عن غبنهم لإفلاسهم وخسارتهم أمام الإسلاميين، ورغبتهم الجامحة للانتقام ورد الاعتبار. وهى محاولات لإنعاش فكرهم ذات المرجعية التي أفلست بانهيار جدار برلين وسقوط الإتحاد السوفياتي. وأظنها فاشلة، حيث أن الشعب التونسي يتطلع إلى حياة سياسية ديمقراطية تتسم بالتعدد والحرية. ولست أرى في العالم كله من يروم العيش تحت ظل ديكتاتورية البروليتاريا التي ينظر لها اليسار الشيوعي. فتجربة الشيوعية في العالم تركت مآسي إنسانية وخرابا اجتماعيا وإفلاسا عقائديا عبر كل الأوطان التي مرت بها، ولا أخالها تصلح للشعب التونسي بعد ثورته المجيدة. ورغم أن مرجعية اليسار الشيوعي ليس من أبجدياتها العمل الديمقراطي والتعدد الفكري والحزبي، ولا يقرون بهوية البلاد الإسلامية والعربية، ويرفعون جهارا شعار إقصاء الآخر وخاصة الإسلامي. ورغم تعارض كل هذا مع قانون الأحزاب المعمول به حاليا، فإنهم تحصلوا بموجب هذا القانون على تأشيرات عدة لتكوين أحزاب سياسية، تحالفت في ما بينها لمحاصرة المد الوطني الشعبي الإسلامي المتنامي بسرعة عجيبة في صفوف الشعب. ومن المفارقات الغريبة، أن الحزب الشيوعي التونسي، وهو من أقدم الأحزاب، حيث تأسس بفرنسا في عهد الاستعمار تحت رعاية الاشتراكيين الفرنسيين، وغير اسمه ليصبح "حزب التجديد"، كان قد عقد أحد مؤتمراته في التسعينات، وقد تابعت فعاليات هذا المؤتمر على شاشة التلفاز، وأنا في السجن أقضي عقوبة بمدى الحياة من أجل انتمائي السياسي. فسجلت ذاكرتي موقفا لزعيم هذا الحزب، حيث قال باللسان الفرنسي: (نحن المعارضة التي لا تقول لا )، وزكى بن علي للانتخابات الرئاسية. ها هو اليوم الحزب نفسه يظهر بزي وطني آخر منافحا عن الثورة ضد بن علي، ويطرح نفسه لقيادة اليسار والليبراليين واللائكيين في تونس ضد المشروع الإسلامي...إن اليسار الشيوعي قد أفلس منذ زمان، ومحاولات إنعاشه بعد الثورة، سوف لن تكون مجدية بما أنه يحمل في طياته دواعي انهياره وإفلاسه فكريا وجماهيريا، فطبيعته الاقصائية وميله إلى ديكتاتورية الإيديولوجيا، وعدم استعداده للعيش السلمي والمتكامل مع الإسلام السياسي، تجعله يقصي نفسه بنفسه، ولن تكون له في المستقبل أدوار هامة في عملية الإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي. فبعد انتخاب المجلس التأسيسي سيتغير الوضع المؤقت، وسيرسم الشعب خارطة طريقه بنفسه، ولن يكون إلا طريق الديمقراطية والتعددية الفكرية والسياسية والثقافية، ولا سبيل لدكتاتورية البروليتاريا في تونس، فالأمر كله للشعب... وأملي كل الأمل ألا يكيف اليسار الشيوعي الصراع الديمقراطي بين المشاريع السياسية حسب منظوره الإقصائي، ويعيدنا إلى أيام التطاحن والاقتتال في الجامعة. وكل الأمل أن يمنهج مشاريعه على مبادئ الديمقراطية وحق الإنسان في الاختلاف، وأن يعدل مساره نحو قبول الآخر والعيش السلمي والخلاق مع كل الطيف السياسي، حتى يتسنى له احتلال موقع متميز في فسيفساء الحياة السياسية، وبالتالي المشاركة الإيجابية في نحت مستقبل أفضل لبلد شهد ثورة ضد الظلم والإقصاء ليس كمثلها ثورة. فتونس تتسع للجميع، وهي ليست في حاجة إلى التناحر والتنافر والاقتتال والإقصاء والتهميش، ووطننا الحبيب في حاجة ملحة إلى كل أبنائه بسواعدهم وأدمغتهم وأفكارهم وكل ميولاتهم. فمن التنوع نصنع الحضارة والتاريخ، ونحقق التنمية الشاملة لكل التونسيين. ناشط سياسي مستقل وقيادي سابق في الاتجاه الإسلامي.