تنظم الجمعية الهولندية غير الحكومية سنويا مسابقة كبرى تتوج فيها أفضل الصور الصحفية (WORLD PRESS PHOTOS) التي التقطت خلال العام وذلك في اختصاصي الصورة المنفردة والريبورتاج. وتحافظ الجمعية على هذا التقليد منذ سنة 1955. ولا تكتفي بتتويج الفائزين بجوائز بل تصدر ألبوما لتوثيق الحدث وتقيم معرضا يتجول في عدد يتزايد سنويا من البلدان وتنظم ورشات تكوينية لفائدة المواهب الشابة في التصوير الفوتوغرافي والصورة الصحفية تحديدا. وقد حل هذا المعرض الدولي بتونس لاول مرة. فقد تم افتتاحه بفضاء التياترو بالعاصمة منذ 10 ديسمبر الجاري ليتواصل إلى غاية 24 من نفس الشهر وتقام بالمناسبة بنفس الفضاء ورشة تكوينية لفائدة 12 مصورا صحفيا تونسيا بإشراف المصور الفوتوغرافي مايكل زيمشتاين. أما موضوع الورشة فيدور حول صورة الرأي. وللعلم فإن صورة العام التي منحتها الجمعية للمصور الصحفي الامريكي سبينسر بلات والتي كانت قد دارت العالم حين الاعلان عن فوزها التقطت لمجموعة من الشبان والشابات اللبنانيات الذين كانوا في لباسهم الصيفي العصري راكبين سيارة مرفوعة الغطاء فاخرة يزورون "حارة هريك" بمدينة بيروت مباشرة اثر انتهاء القصف الاسرائيلي للحي والذي حوله إلى ركام. وشدت الصورة انتباه لجنة التحكيم لما كانت تصفه من تناقض بين المظهر الخارجي لهؤلاء الشبان والشابات وبين مشهد البيوت المهدمة والدمار المحيط بالحي من كل جانب. حول ضحايا الحروب والافكار المسبقة ويمكن أن تثير الصورة الفائزة في كل من يراها شعورا ما. يمكن أن يكون الامتعاض ويمكن أن تكون الدهشة إزاء هؤلاء الشباب الذين لا يعطون الانطباع بالمرة سواء من خلال مظهرهم الخارجي حيث علامات الصحة والرفاهة تبدو جلية عليهم أو من خلال تصرفاتهم فأغلبهم كان شاهرا هاتفه النقال واضعا نظارته الشمسية وكانت احداهن تستعمل منديلا لتحمي أنفها من الروائح الكريهة خاصة أنه ووفق ما نقلته وكالات الانباء إبان الحادث فإن الحي مازالت به جثث تحت الانقاض. هؤلاء الشباب الذين لا يعطون الانطباع أنهم كانوا لمدة أسابيع هدفا ربما لاقوى ترسانة حربية في العالم القوات الاسرائيلية مما قد يدفع المتلقي للتسليم بأنه لا يوجد أي تطابق مع ما يمكن أن نتصوره عن ضحايا الحروب لكن من يدري. على كل فإن هذا الانطباع على توافق تام مع رأي المصور الصحفي الذي التقط الصورة التي انتخبت كصورة للعام إذ صرح بأنه أراد أن يظهر من خلال تلك الصورة أن ما نحمله من أفكار حول ضحايا الحرب لا يكون صحيحا في أغلب الحالات ربما يكون الامر كذلك ولكن أن تصل المسألة إلى أن ينقلب مفهوم الحرب في الاذهان فهذه فلسفة من الصعب التعامل معها. لبنان موضوع جائزة العام ليس هذا مهما على ما يبدو في نظر لجنة التحكيم بقدر اهتمامها بمدى توفق صاحب الصورة في تحريك شعور ما. قد تكون ردة الفعل تجاه تلك الصورة مختلفة وقد يقرأ منها البعض علامة على القوة التي يتحلى بها الانسان اللبناني الذي جعلته المحن المتتالية يعيش كل لحظة بكل ما يحمله بين جوانحه من رغبة في الحياة وقد تكون ردة الفعل العكس أي ما سبق وذكرناه. المهم في كل ذلك أن هذه الصورة تحرك في المتلقي ردود أفعال ولا تتركه على حياده. القراءات قد تكون مختلفة لكن الصورة جذابة وتشد العين منذ اللحظة الاولى لان عملية التضاد فيها أكثر من بارزة إن لم نقل مثيرة ومستفزة أيضا لكنها تبقى صورة غير جوفاء بل حاملة لمضمون. وهي الاسباب التي جعلت لجنة التحكيم التي ترأستها السيدة ميتشالي ماكنايلي ممثلة عن صحيفة " نيويورك تايمز" وضمت 13 عضوا من بلدان أوروبية وافريقية وآسيوية وأمريكية ممثلين عن صحف ووكالات أنباء ووكالات تصوير عالمية وبعد حوالي أسبوعين من النقاشات تمنح الجائزة الكبرى للصورة المذكورة. وبالتوازي مع صورة العام تمنح الجمعية ثلاث جوائز (جائزة أولى وجائزة ثانية وجائزة ثالثة) للصور الملتقطة حول المواضيع التالية: الاخبار السريعة ومتفرقات وأخبار عامة ومواضيع معاصرة والحياة اليومية وبورتريهات والفنون والعروض والطبيعة والرياضة وتمنح جوائز لكل هذه المواضيع في اختصاصي الصورة المنفردة والريبورتاج أي مجموعة من الصور التي تتناول موضوعا من القائمة المذكورة. وككل المسابقات فإن الجمعية تمنح أيضا تنويهات وشهادات شكر. ولعله تجدر الاشارة إلى الاقبال الذي تعرفه هذه المسابقة العالمية ذلك أنه ترشح حوالي 4460 مصورا فوتوغرافيا يمثلون 124 بلدا للمسابقة بعنوان 2007 وقد انكبت لجنة التحكيم على دراسة 78083 صورة في المجموع ليقع الاختيار في النهاية على 191 صورة. فضاء التياترو والحدث فضاء التياترو الذي يدير التنشيط به السيد محمود شلبي وقع تغيير الديكور به ليتهيأ لاستقبال هذا الحدث الذي يقع ببلادنا لاول مرة. وقد تمت الاستعانة بجدران اصطناعية وضعت وسط الفضاء ليتسع المكان لمختلف الصور. لقد تم تقديم مجموع الصور في شكل فني جذاب إذ علقت على خلفية تجعل الصورة بارزة وتمت إحاطتها بإطار مع تكبيرها إلى الحجم المناسب لتكون أغلبها متساوية أو متقاربة من حيث المساحة كما أنه وإلى جانب كل صورة كان هناك نص يشرح موضوع الصورة وظروف التقاطها واختصاص المسابقة ونوع الجائزة. ويمكن القول أنه يصعب على الزائر إن لم يكن ملما بالتفاصيل الصغيرة التي تجعل هذه الصورة تتفوق على الاخرى والتي تجعل من تلك الصورة تحصل على الجائزة الاولى في حين تكتفي الاخرى بالجائزة الثالثة إلخ... يصعب عليه التمييز بين صورة وأخرى بالمعرض ذلك أنها تبدو في مجملها تحمل مواصفات جودة عالية من حيث تقنيات الصورة والوضوح بالخصوص ومن حيث ما تحمله من رسالة ومعنى. الصورة ولئن كانت في المطلق هي عملية تخليد للحظة ما فهي أصبحت تحمل قيمة كبيرة في هذا العصر الذي يعتبر عصر الصورة بامتياز. فصورة واحدة يمكنها أن تختزل آلاف الكلمات وصورة واحدة يمكنها أن تحدث تأثيرا لدى الناس أكثر مما تحدثه الخطابات والنصوص الطويلة. بقي أنه ينبغي أن يكون ملتقط الصورة الصحفية محايدا وأن عملية بثها لا تكون لهدف آخر بخلاف قول الحقيقة وهي مهمة تحرص المنظمة الهولندية غير الحكومية والتي لا تسعى للربح ولا تتاجر بالصور إذ أن المعرض يقع تنظيمه للعرض وليس للبيع، مهمة تسعى لتحقيقها. وقد كشف التاريخ غير البعيد كيف أن الصورة تفتح عيون العالم في أكثر من مرة على الحقيقة والعالم مازال يتذكر مثلا تلك الصورة لفتاة عارية هاربة من المدافع خلال حرب الفيتنام. ولعل الناس مازال قلبها يكاد ينخلع عندما تتذكر مشهد الطفل الفلسطيني محمد الدرة وهو يموت أمام عين الكاميرا وكيف تم تخليد ذلك المشهد في صورة صحفية سبق لصاحبها أن توجته هذه المنظمة غير الحكومية الهولندية كما أن العالم لم يهتز ولم يهب لنجدة ضحايا التسونامي لما قرأه أو سمعه من أخبار فقط ولكن لما شاهده من صور بالخصوص. والامثلة الدالة على قوة تأثير الصورة وخطورتها في آن واحد كثيرة. ولا يبدو لنا بالمرة من خلال معرض الصور بالتياترو أن هناك محاولة لتزيين الواقع. أشياء تفوتنا إن جولة في هذا المعرض المذكور تكفي لتعطينا فكرة بالتدقيق عما يجري من حولنا. أشياء كثيرة تفوتنا رغم اعتقادنا أن العالم صار على بعد موطئ قدم منا، معاناة ضحايا الحروب، النزاعات العرقية بافريقيا، الفقر والبؤس في عدة مناطق من العالم وأطفالا يبيعون أجسادهم، الحياة البدائية والانسان عندما يستوي مع الوحوش المفترسة، الجثث الممزقة الملقاة على الطرقات، الجنود الذين يسقطون في الحروب والبيوت التي يداهمها جنود الاحتلال، الاطفال المرعوبون والامهات التي تصرخ والرعب المرسوم على الوجوه والعيون الجاحظة خوفا. كل ما نعرفه هو أصداء لما يحدث في العالم، لكن هذا المعرض يقدم لنا الحقيقة عارية فلنعترف أن هذه الصور قد لا تروق لمن يحمل قلبا رقيقا.المشهد عامة سوداوي لولا بعض الصور التي تبعث بارقة أمل لما تتضمنه من مواضيع طريفة على غرار مشهد اللاعب الفرنسي زين الدين زيدان وهو ينطح اللاعب الايطالي في تلك اللحظة المشهورة في الدقائق الاخيرة من الدور النهائي لكأس العالم لكرة القدم الاخيرة الذي انتهى بفوز الفريق الايطالي على نظيره الفرنسي. بعض اللحظات الطريفة وربما المضحكة نضيف لها بعض الصور حول بعض الانجازات الرياضية أو مشاهد عن الجماهير بالملاعب التي تهتز لابطالها وفرقها الرياضية أما البقية فهي إلى السوداوية أقرب منه إلى بهجة الحياة حتى أن الحيوانات لم تسلم من الظلم والطبيعة والبيئة المهددة والارض التي ضاقت بعبادها. مشهد لا نرى فيه مساحات كبيرة للامل... الجماعة لا دخل لها فيما بدا لنا من سوداوية المشهد فكل ما حدث أن المصورين كانوا في المكان المناسب في اللحظة المناسبة ليردوا لنا الصورة التي عادة لا نرغب في أن نراها لانها تكشف جزءا من حقيقتنا. مع العلم أن المعرض تم تدشينه يوم 10 ديسمبر أي اليوم الذي يحتفل فيه العالم بذكرى الاعلان العالمي لحقوق الانسان وقد حضرت سفيرة هولندا بهذه المناسبة بفضاء التياترو وتحدثت بالخصوص عن ضرورة مواجهة الحقيقة وعدم تجاهل ما يعانيه جزء كبير من سكان العالم سواء بسبب الحروب أو الفقر أو الاستبداد والتنكر لحقوق الانسان.