بقلم: سمير ساسي يعزى الانفصام القائم بين النخبة السياسية والجماهير التي ثارت ونجحت في ثورتها دون قيادة سياسية إلى ما نعتبره عجزا لدى النخبة في صياغة الأسئلة الحقيقية التي تتطلبها المرحلة. إذ يعمد عدد ممن يصنف نفسه ضمن النخبة إلى تحويل اهتمام التونسيين إلى قضايا هامشية لا علاقة لها بجوهر قضاياهم المطروحة عليه بعد الثورة وهذا ما نسميه بالمعركة الخطأ في الزمان والمكان والمضمون. المعركة التي نقصد ونسعى إلى تناولها في هذا المقال هي هذا الجدل الفكري العقيم الذي يهيمن على النخبة التونسية أياما قبل مباشرة السلطة الشرعية لمهامها في هذه المرحلة الحرجة والحساسة من تاريخ تونس التي تتطلب تكاتف كل الجهود من أجل تشخيص القضايا الحقيقية التي على النخبة والشعب أن يخوضا فيها ,فمن المهم والمنطقي أن نسأل هؤلاء الخائضين هل أن ما يخوضون فيه هو فعلا التحدي الأكبر للشعب التونسي في هذه المرحلة؟ هل ان جدالكم مع الحركة الإسلامية حول قضايا فكرية بحتة يغلب عليها طابع الانتقام من التاريخ هو ما يحتاجه منكم الشعب اليوم الإجابة بالطبع وحسب ما نرى هي بالسلب، لأنه حتى في صورة أن ذلك صحيح وخطر قائم فانه ليس أولويا، ذلك أنه مهما بلغت رجعية أفكار الحركة الإسلامية كما يزعم خصومها فليس المطروح على التونسيين الآن مجادلتها في قضايا فرعية لن تتقدم بالبلاد قيد أنملة. ولا عبرة هنا لما يقوله هؤلاء الخصوم من أن مكاسب الحداثة مهددة من هذه الحركة وأن عليهم أن يطمئنوا قبل مواصلة المسير إلى أن الحركة الإسلامية راجعت موقفها تجاه هذه القضايا، لأن قطار الأحداث لن ينتظر الجميع حينها، وسيفيق الجميع على مشهد كاريكاتوري تقف فيه النخبة المزعومة تفتخر بما حققته من انتصار على الحركة الإسلامية، وتسوق فيه هذه الأخيرة ما تعده تفاعلا إيجابيا مع مكونات المجتمع المدني, لكن المجتمع الحقيقي سيكون لحظتها قد حزم حقائبه وسافر إلى نمط اجتماع آخر خال من الطرفين المحتربين يعد له المتربصون بالثورة منذ قيامها. هل يكفي أن يسلم الإسلاميون بما يقوله العلمانيون تسليما كاملا غير منقوص مصادقا عليه من هؤلاء الذين يسلطون عليهم سيف التفتيش في النوايا لتتقدم الثورة نحو تحقيق أهدافها، أم أن التحدي أكبر من ذلك بكثير؟ مما لا شك فيه عندنا أن المطروح الآن وهنا ليس مآل هذا التجاذب الفكري العقيم، بل المطروح هو كيف يمكن أن نؤسس للتعايش بين مختلف الأفكار والتوجهات في بلد عاش منذ قيام الدولة فيه على منطق الإقصاء ومبدأ «ما أريكم إلا ما أرى». ليس هذا بالأمر الهين في نظرنا، لأنه يتطلب من الجميع ودون استثناء أن ينزعوا أنفسهم من أنفسهم وأن يتطهروا من أثر الاستبداد فيها قبل أن يواصلوا الطريق من أجل نزع منظومة الاستبداد من أجهزة الدولة والمجتمع عموما.. هل يدرك التونسيون اليوم أصحاب الثورة النموذجية أن أسلافهم رغم معاناتهم العظيمة من استبداد دولة الاستقلال، لم يحيدوا باجتماعهم المدني غير المتطور عن أسس التعايش المشترك؟ إن حالة الاحتراب الثقافي التي يحاول البعض جر البلاد إليها تثبت حقيقة أنه لا علاقة لهم بواقعهم وأنهم منبتون عن قضاياه الحقيقية، فالشعب التونسي منذ قيام الدولة الحديثة لم يجعل من الاختلاف حول هذه القضايا الفرعية مشكلته الرئيسية، إذ لم يسجل تاريخ هذا الشعب أنه أوقف الزمن عند لحظة صراع حول مفهوم من المفاهيم مع سلطة دولة الاستقلال التي كانت تخوض حربا شعواء في هذا الإطار تحت حجة تحديث الدولة ونشر الحداثة، لكنه في المقابل وقف سدا منيعا إزاء التدخل المباشر والعملي للسلطة في مثل هذه القضايا، ,وهذا هو حقيقة الفعل المدني المعادل لسلطة الدولة . فهل كان ذلك الجيل من الشعب التونسي يستبق هذه اللحظة التاريخية الهامة التي تمر بها تونس ليعلم القائمين عليها والفاعلين فيها أن الصراع على المفاهيم كبرت أو صغرت هو صراع عقيم يقع خارج الزمان والمكان ولا طائل من ورائه؟ كيف يمكن إذن لتونسيي الثورة أن يستفيدوا من تاريخهم ومن حاضرهم ويتجنبوا خوض المعركة الخطأ بدل أن يفوتوا على أنفسهم فرصة صنع الحدث والريادة فيه؟ لا يمكن أن نسلم بأن الجميع يدرك هذه الضرورة التي تحتمها المرحلة على الفاعلين في الحياة المدنية والسياسية، فبعض هذا الجميع جاهل بترتيب الأولويات وبعضهم مستيقن بها، لكن نفسه تجحدها ظلما وعلوا، وهم الفئة التي عنينا في مقالنا هذا. ولأنهم لا يملكون الشجاعة ولا القدرة على التعامل الموضوعي المتحلل من الايدولوجيا فإنهم سيواصلون غيهم وإصرارهم على هذه المطالب التي لا تميز الخبيث من الطيب، ولكن ندرك أنهم في نهاية المطاف سيقفون عند حكم الشعب الذي لا يتسامح مع الذين يستخفون به.