بقلم : الدكتورمحمود الذوادي لأول مرة بعد الإستقلال يَجْمع نظام الحكم في تونس في أعلى هرمه السياسي بين رئيس جمهورية له توجه عربي قوي ورئيس حكومة له اتجاه إسلامي. وهوحدث تاريخي فارق يمثل قطيعة ثقافية مع نظامي الحكم للعهدين السابقين. لقد أدارت منذ 1956 حكمَ البلاد نُخب سياسية وثقافية تونسية طالما كانت مغتربة اللسان والفكروالعقيدة عن الهوية العربية الإسلامية للشعب التونسي. فالرئيس بورقيبة لم يكن متحمسا لا إلى التعريب ولا إلى الإسلام. ومن ثم، يجوزالقدح لغويا ودينيا في مشروعية توليه الحكم على الشعب التونسي صاحب الهوية العربية الإسلامية. هناك مؤشرات عديدة تفيد أن أغلبية «الحداثيين» التونسيين اليوم لايرحبون ثقافيا بفريق أعلى هرم السلطة السياسية في تونس ما بعد انتخابات 23 أكتوبر2011. فهم عموما يختلفون على مستوييْ استعمال اللغة العربية والتراث الثقافي العربي الإسلامي عن الحداثيين في اليابان وكوريا الجنوبية وتركيا ومقاطعة كيباك بكندا حيث نجحت مسيرة الحداثة في تلك المجتمعات باستعمال لغاتها والمحافظة على تراثها الثقافي. أما «حداثيوتونس» فمنهم من يطالب بالقطيعة الكاملة مع قطبيْ هوية الشعب التونسي: اللغة العربية والإسلام. أما أغلبية هؤلاء «الحداثيين» فترى أنه من المستحيل أن تكسب تونس رهان الحداثة عن طريق استعمال اللغة العربية. لذا نادت بعض الشخصيات التونسية «الحداثية» داخل تونس وخارجها بالتخلص من اللغة العربية الفصحى كلغة رسمية للمجتمع التونسي وتعويضها بالعامية التونسية أي الفرنكوأراب. وهي مقولات ناتجة في المقام الأول عن استمرارهيمنة الإستعماراللغوي الثقافي الفرنسي على نفوس وعقول هؤلاء، من ناحية، وجهل بعلم منظومة اللغات وفي طليعتها كيف تتقدم وتتأخر اللغات وما هي العوامل التي تؤدي إلى تطبيع العلاقة بين اللغات الوطنية وأهلها أوتقود إلى حالات الإغتراب والإستلاب بين المواطنين ولغاتهم، من ناحية ثانية. وهكذا، جاءت الإنتخابات التونسية الأخيرة بنظام حكم سياسي منسجم مع الهوية العربية الإسلامية للشعب التونسي أكثربكثيرمما عرفه التونسيون لدى نظاميْ الحكم مع بورقيبة وبن علي. ومن ثم، فمشروعية حكام تونس ما بعد الثورة لاتأتي فقط من الإنتخابات الديمقراطية الشفافة التي فازوا فيها وإنما ترجع أيضا إلى كونهم يعبرون بشفافية وافتخار بانتساب الشعب التونسي إلى الأمتين العربية والإسلامية. إذن، فنحن أمام تغييرهام في المنظورالثقافي لأصحاب الحكم الجد د بعد الثورة. وكما تؤكد مقولتي الفكرية « أن الإنسان كائن ثقافي بالطبع»، فيُنتظرأن يكون لتغييرثقافة المسؤولين الكبار في نظام الحكم الجديد انعكاسات سياسية على المستويين الوطني والخارجي. إذ المنظومة الثقافية هي المؤثرالحاسم في توجيه سلوكات البشروالمجتمعات. أقتصرهنا على ذكر ما يحتمل أن يقوم به النظام الجديد بخصوص ما أسميه «التوطين الكامل» للغة العربية في المجتمع التونسي. وهوأمريبدو أن هناك اتفاقا قويا حوله لأول مرة في تاريخ تونس الحديث بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة. إذ حال اللغة العربية في هذا المجتمع ليس على ما يرام بعد أكثرمن نصف قرن من الإستقلال. فوضعها اليوم عند أغلبية التونسيين يشبه وضع لغة ثانية. فروح الثورة لاتقبل الإستمرارفي النفاق والكذب في مسائل أبجدية بالنسبة لهوية الشعب التونسي. فالواقع الملموس يحتاج إلى ثورة على السياسات اللغوية بعد الإستقلال التابعة لهيمنة فرنسا وعقدة الإستعمار اللتين جعلتا اللغة العربية/ الوطنية في مكانة دونية بين معظم التونسيين في عهدي الإستعمار والإستقلال بحيث لايكادون يشعرون نفسيا ولايتصرفون اجتماعيا إزاءها على أنها لغتهم الأولى ، يعتزون ويفتخرون بها ويغارون عليها ويدافعون عنها قبل أي لغة أحنبية. يمكن تغييرعقلية رواسب الإستعماراللغوي الثقافي لدى التونسيات والتونسيين بتبني أمرين يسمحان بالتحررمن استعمارالنفوس والعقول الذي يحدثه الإحتلال اللغوي الثقافي: أ أن لا تكون معرفة لغة أجنبية كالفرنسية والإنكليزية صنارة تقود إلى فقدان اللغة العربية لمكانتها الأولى عند التونسيات والتونسيين كما هوالحال لدى معظمهم اليوم. وهم بذلك في مأزق حرج يندد به المنطق البسيط وسياسات الدول المتقدمة مع لغاتها. أما المنطق فيقول إن اللغات الوطنية تحظى بالأولوية المطلقة والمكانة الأولى في حياة الشعوب. وبالنسبة للمجتمعات المتقدمة، فلغاتها الوطنية تلقى الإحترام الكامل عندها بحيث تعتبرها كأنها أشياء مقدسة. ب يجب التنصيص في الدستورالتونسي الجديد على قوانين وبيانات مفصلة لحماية اللغة العربية بحيث تصبح في الواقع الميداني فعلا لغة وطنية، أي لغة التعامل الوحيدة بين التونسيين أنفسهم وفي كل معاملات مجتمعهم الأمرالذي يجعلهم نفسيا يغارون عليها ويدافعون عنها بكل تلقائية وافتخاروحماس. فمثل ذلك السلوك الجماعي إزاء اللغة العربية سيكون نتيجة لما أسميه «التعريب النفسي». فبدون هذا الأخير، يصعب استشرافُ الآفاق الواعدة للثورة التونسية. إذ لايجوز الحديث عن ثورة حقيقية في البلاد التونسية والحال أنه لم تقع ثورة لصالح ثوابت هوية الشعب التونسي وفي طليعتها الثوابت اللغوية التي تمثلها اللغة العربية، اللغة الوطنية للمجتمع التونسي.