سواء كان قرار محمد البرادعي الانسحاب من سباق الانتخابات الرئاسية المرتقبة في مصر مجرد مناورة سياسية وتكتيك مدروس لاختبار الراي العام في الداخل والخارج قبل العودة لخوض السباق من موقع مختلف بعد مراجعة مختلف نقاط الضعف التي قد يتعين عليه تجاوزها، أو كان نهائيا، فإن فيه أكثر من سبب يدعو للتساؤل حول مسار الديمقراطية في دول الثورات العربية التي اشتركت في صنعها الشعوب ودفعت ثمنها غاليا حتى الآن.. طبعا الامر لا يتعلق بشخص البرادعي، العالم الذي استحق موقعه على رأس الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ولا بالبرادعي الذي اثار جدلا مثيرا قبل وبعد الحرب على العراق بسبب أسلحة الدمار الوهمية، ولكن بالبرادعي الذي يدخل غمار المعركة السياسية في مرحلة تاريخية قد لا تتضح معالمها قريبا. فانسحاب البرادعي من سباق الانتخابات الرئاسية قبل أحد عشر يوما من إحياء الذكرى الاولى لثورة 25 يناير التي أنهت حكم آل مبارك بعد أكثر من ثلاثة عقود من الحكم الفردي والاستبداد المطلق يطرح أكثر من نقطة استفهام ويدعو الى أكثر من قراءة لمشهد قد لا يقبل التوقف عند الحدود المصرية ليمتد الى غيرها من دول الربيع العربي التي تعيش مخاض المرحلة الانتقالية العسير بكل رهاناته وبكل تحدياته الآنية والمستقبلية.. قبل شهرين وأثناء زيارة الى تونس بدا البرادعي من خلال تصريحاته على استعداد لمواجهة الاختبار مبديا ارادة صريحة في المشاركة في المشهد السياسي والقبول بالمنافسة وفق ما تقتضيه لعبة الديمقراطية الناشئة بعد انتصار ارادة الشعب الذي كسر قيود الخوف والتردد وقطع مع عهد الوصاية المفروضة ليتراجع البرادعي بالامس مشددا على أن النظام السابق لم يسقط وأن جوّ الصفقات هو السائد اليوم بين القوى السياسية. وبالعودة الى تصريحات المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية في تسويق أسباب هذا القرار يبدو المشهد الراهن في مصر على درجة من التعقيد والتباين في التقييمات والتوقعات. فقد اشار البرادعي الى أن ضميره لا يسمح له بالترشح للمنصب أو لاي منصب رسمي آخر الا في اطار نظام ديمقراطي يأخذ من الديمقراطية جوهرها وليس شكلها". البرادعي لم يشأ أن يتوقف عند مسألة الديمقراطية المترنحة بعد أن تاهت عن الطريق الصحيح وأوشكت على السقوط في متاهات الصراعات الايديولوجية والمصالح الضيقة والصفقات المعلنة والسرية بين القوى السياسية المتناحرة بل ذهب الى نقطة حساسة ومصيرية عندما أشار الى خلل دستوري والى رفضه القبول بدستور ملفق البنود يجري الاعداد له بشكل متسرع خلال أسابيع ليحدد مصيرأجيال تتطلع الى العدالة والكرامة والانسانية. وفي انتظار ما يمكن أن تحمله الانباء القادمة عن تطورات المشهد المصري فان في تحفظات البرادعي على البنود التي ستحدد صلاحيات الرئيس ما يمكن أن يكون السبب الاهم لهذا التراجع في ظل نتائج الانتخابات التشريعية التي أكدت تقدم الاخوان ومن خلفهم السلفيون بما يعني أن الرئيس القادم سيتعين عليه أن يحل محل الناطق الرسمي باسم الحكومة المرتقبة وأن تقتصر مهمته على الدعاية الاعلامية والتصدي لكل الانتقادات في اصرار واضح على استعراض مهاراته الخطابية وقدرته البلاغية في تحميل الإعلام والإعلاميين مسؤولية كل المشاكل والويلات والأزمات ما خفي منها وما ظهر.. آسيا العتروس