في وقت كان فيه الجميع صامتين صمت الأموات حول موضوع «رحلة الشتاء» لأمراء الخليج لبلادنا لصيد طائر الحبارى، كتبنا نحن في «الصباح» كل شتاء تقريبا حول هذا الأمر المخزي، وندّدنا به تنديدا شديدا. وهذا ليس إطلاقا من باب الفخر والتفاخر، ولكن لنبيّن أنه حتى في ظل نظام دكتاتوري على المرء صحفيا كان أو غيره ألا يستسلم للأمر الواقع، وأن يحاول كلما سنحت الفرصة القيام بواجبه وعلى الأقل ازعاج السلطة واحراجها، حتى لا تستغول ذلك الاستغوال الذي عشناه. فهناك أشياء كثيرة كان يمكن أن تقال، ولكن الجبن المبالغ فيه، كان يدفع الكثيرين الى الصمت المطلق. فلو حاول كل واحد منا، وخصوصا في القطاع الصحفي أن «يلعب» أحيانا خارج الخط الأحمر للممنوعات، ولو بمسافة قليلة لما عشنا ذلك الذي عشناه. ولكن لا يهمّ، لنمرّ، فقد قمنا بتحقيقات عديدة حول موضوع صيد الحبارى المحرّم دوليا، وندّدنا بصمت الجمعيات البيئية، ومن بينها بالأخص جمعية حماية الطيور، فمن المضحكات المبكيات، أنه عند اتصالنا بهذه الجمعية كل سنة، وبسط الموضوع عليها لمعرفة موقفها، يتم وعدنا بالتثبت في الأمر ثم الاتصال بنا. أتعرفون ماذا يحدث بعد ذلك؟ ما يحدث هو أن رئيس هذه الجمعية في ذلك الوقت وجميع أعضائها يغلقون هواتفهم نهائيا، ولمدة أيام طويلة!! الى أن يعود الأمراء الخليجيون الى بلدانهم، بعد أن نفخوا أجسادهم بهذه الفياغرا(1) الطبيعية «مايد إن تونيزيا» (Made in Tunisia). وهذا الموقف المخزي للجمعيات البيئية، وفي مقدمتها جمعية حماية الطيور، أشرنا اليه منذ سنوات طويلة، ونددنا به تنديدا شديدا، طمعا منا في أن يثير ذلك رد فعل ما من هذه الجمعيات أو السلطة، ولكن الصمت المطبق كان الجواب الوحيد!! وواصل الأمراء الخليجيون القيام برحلات الشتاء نحو صحرائنا طوال عهد بن علي، للقضاء تدريجيا على هذا الطائر المحمي دوليا. ولكن ما يهمنا اليوم، بعد أن ذهب «بن علي بابا» وزمرته، هو أنه يبدو أن هذه الرحلة قد «أقيمت» هذه السنة أيضا، أي أن «العادة الحميدة» قد تواصلت بعد الثورة. فقد أكدت عديد الصحف ذلك، ولم أقرأ في المقابل أي تكذيب للأمر. أتمنى ألا تكون مثل هذه الأخبار صحيحة، وأنه وقع تكذيبها دون أن أتفطن الى ذلك، لأنها بحق فضيحة كبرى لو صدقت. ولنعد الآن الى موضوع جمعية حماية الطيور التي لا تحمي شيئا. فغالبية الجمعيات المماثلة في عهد بن علي كانت جمعيات صورية، لا تحمي شيئا ولا تتصدى لشيء، ولا تندد بشيء ولا تتخذ أي موقف، بل هي نوع من الديكور الديمقراطي الكاذب، إلا أن تحمل المسؤولية صلبها يسمح للقائمين عليها بالحصول دون وجه حق على منافع عديدة، في مقدمتها الأسفار الى الخارج، كما أنها تتحكم أحيانا في ميزانيات ضخمة، ويغلب على أوجه استغلالها سوء التصرف والمحاباة، وحتى السرقة، رغم أنها من أموال المجموعة الوطنية، تدفع لها على حساب الشعب «الغلبان»، وعلى حساب حقه في التعليم والصحة، وفي مختلف مقومات الحياة الكريمة، ولذلك فلا بد أن تُفتح ملفاتها هي أيضا الواحدة تلو الأخرى من قبل القضاء. فالمساءلة القانونية واجب وطني لا لبس فيه، محاسبة لا ترمي الى التشفي والانتقام، بل الى تحميل كل طرف مسؤولياته. فلا يعقل أن يقبل شخص ما «مسؤولية» ما، بامتيازاتها العينية والمعنوية، ثم يتهرّب من «المسؤولية» عن تصرفه فيها وعن أدائه لها.