في قراءة للتجاذبات الأخيرة التي شهدتها الساحة السياسية لا سيما توتر العلاقة بين المعارضة ز ز الحكومة ومعارضيها وبين الحكومة والمنظمة الشغيلة والتجاذبات في الساحة الإعلامية والجامعية التي تعد في حقيقة الأمر نتاجا لصراعات سياسية وايديولوجية تغذيها حسابات حزبية وانتخابية في علاقة بالاستحقاقات القادمة ... .. يمكن القول أن المؤشرات جعلت بعض المحللين يقرون بأن مسار البلاد اليوم في مفترق طريق بين خيار التصعيد والقطيعة والحرب السياسية المفتوحة مع تمسك كل طرف بمواقفه وبالتالي دخول البلاد في حلقة مفرغة ودوامة تزيد من تعفن الوضع وتعميق الأزمات الإجتماعية والإقتصادية ويدفع فيها المواطن الضريبة الأكبر.وبين خيار ثان يحتم التوجه نحو الحل الوفاقي الذي ستلعب فيه الشخصيات الوطنية ومنظمات المجتمع المدني الدور الأبرز في تقريب وجهات النظر بين الفرقاء للحسم في بعض القضايا الخلافية المتعلقة بكتابة الدستور وكذلك للبحث عن مخارج وفاقية تيسر عمل الحكومة بعيدا عن الاتهامات المتبادلة بين الأغلبية والمعارضة. وبالتالي يظل خيار الوفاق الذي لازم أبرز المحطات السياسية التي برز فيها خلاف منذ 14 جانفي الخيار الأوحد وطوق النجاة مهما احتد الصراع. «الصباح» وسعت دائرة النقاش حول موضوع الوفاق والحوار الوطني لتجاوز حالة الشلل التي تبدو عليها اليوم الحياة السياسية في تونس وحاولت رصد وجهات نظر عدد من السياسيين والمحللين: إعداد: منى اليحياوي
مية الجريبي (الأمينة العامة للحزب الديمقراطي التقدمي): الوفاق ممكن.. وعلى الحكومة الابتعاد عن خطاب المؤامرة هل تتفقون مع الطرح الذي يرى البلاد في مفترق طريق ويجب البحث عن وفاق بين الفرقاء داخل المجلس وخارجه للخروج من عنق الزجاجة؟ -المرحلة الحالية التي تمر بها البلاد اليوم على ضوء صياغة الدستور تجعلني أذكر أننا لن نكتب دستورا لهذا الحزب أو ذاك وإنما لكل التونسيين ولأجيال متعاقبة وهذا ما يفرض علينا روح الوفاق. وما عشته وما أعيشة على الأقل في لجنة التوطئة -كما في جميع اللجان- يؤكد أن التوافق ممكن ويمكن البحث عن مكامن الإلتقاء الذي يوحد ويجمع ولا يفرق.وعلى سبيل المثال وعلى مستوى صياغة التوطئة هناك دفع باتجاه التأكيد على ضرورة البناء من منطلق الشخصية التونسية والنهل والإستلهام من القيم الإسلامية الخالدة ومن مخزون الحركة الإصلاحية التونسية ومن مكتسبات الحضارات والمنظومة القيمية الكونية وهذا يمكن أن يشكل توافقا سياسيا مهما نؤسس عليه. وهذا الوفاق ليس فقط ممكنا بل هو مطلوب اليوم. من جهة أخرى وعلى مستوى عمل الحكومة وعلى المستوى السياسي، ما نشهده اليوم هو واقع على غاية من الصعوبة تعيشه البلاد في ظل تفجرالأوضاع والتي لم تزدها الكوارث الطبيعية إلا تعقيدا مع بداية نفاذ صبر شرائح واسعة من التونسيين الذين لم يروا شيئا يتجسد من أهداف الثورة عمليا على مستوى الواقع كالمحاسبة وجلب الرئيس المخلوع الذي أصبح ثانويا. كل هذه المسائل جعلت التونسيين يتوجسون على مستقبلهم ويتساءلون متى سننطلق في اجراءات عملية. وما شهدته الساحة السياسية للأسف هو عدم إقرار الحكومة بهذه الصعوبات والعراقيل التي تضعها هي ذاتها أمام نفسها وتوجهت في المقابل للبحث عن أكباش فداء والحديث عن مؤامرات تذكرنا بخطاب خلنا أن الثورة جرفته إلى ما لا عودة. أعتقد أن الحديث عن وفاق من الضروري أن يمر عبر تشخيص الوضع بما يحمل المسؤولية لمختلف الأطراف المتحملة للمسؤولية وأولها الحكومة المدعوة إلى الإقرار بعدم القدرة على الإستجابة لمتطلبات الوضع في المرحلة القادمة والتوجه نحو البحث عن حلول مع القطع خاصة مع خطاب المؤامرة وتحميل المسؤولية للأطراف التي فشلت في الإنتخابات. والحكومة مطالبة بحكم موقعها ومسؤولياتها بأن تشخص وتصنف بصفة واقعية مؤشرات الوضع وتقدم الحلول العملية فإلى حد الآن ليس لنا مخططا ورؤية شاملة وبرنامجا مزمنا نحن بانتظار القانون التكميلي للميزانية عساه أن يتقدم بنا. بعد انسحاب كتلة المعارضة من المجلس رجح البعض أن تكون سياسة الكراسي الفارغة استراتيجية المعارضة مستقبلا وهناك من ربطها بما راج عن وجود نوايا لإسقاط الحكومة وكل هذا لا يخدم منطق الحوار والوفاق المنشودين..فماذا تعلقون؟ - بالعكس ما وقع في الجلسة العامة يضع رئاسة المجلس في موقع عدم فسح المجال أمام حوار حقيقي يطرح مشاغل المواطنين وليس صحيحا أن المعارضة لم تبحث عن حلول بل نحن أرغمنا وأكرهنا على الانسحاب لأن الحوار مع رئيس المجلس حول مسألة الوقت قبل الجلسة العامة عن طريق ممثل كتلتنا رغم أننا ،كنا فيه مرنين ومتفهمين إلى أقصى درجة ومنفتحين على كل المسائل التي طرحت باستثناء رفضنا القيام بدور «الديكور» فلماذا لم يكن رئيس المجلس منفتحا ويعطي المزيد من الوقت.للأسف رئيس المجليس ينتهج منطقا استبداديا نتمني أن يقطع معه ليكون المجلس فضاء رحبا للحوار الحقيقي مع الحكومة لتقديم المقترحات والتفاعل معها. وليس صحيحا أن توجه المعارضة هو عرقلة عمل المجلس فهذا يرجعنا مرة أخرى إلى الخطاب التآمري والبحث عن أكباش فداء.نحن معارضة مسؤولة ونحن أحزاب مسؤولة وتصاريحنا ومواقفنا واضحة وجلية ولا نخاف في الحق لومة لائم ولا نراوغ .وموقفنا جاء في سياق المطالبة بحوار حقيقي ورفض موقع الديكور ونحن منفتحون ومرنون ونهجنا أن هذا المجلس الذي جاء بعد ثورة عليه القيام بدوره ولا يكون مجرد صورة.
محمد القوماني (أمين عام حزب الإصلاح والتنمية): قيادة النهضة قادرة اليوم على بعث مبادرة باتجاه الوفاق - إن تنامي التجاذب السياسي والإيديولوجي الذي تعددت مظاهره في الأسابيع الأخيرة سواء في المجلس التأسيسي أو في الساحة الإجتماعية وفي الجامعة وفي وسائل الإعلام بلغ درجة من الحدة التي باتت تهدد المشهد السياسي والإستقرار الإجتماعي وهذا التجاذب يعكس تخوف جهات عديدة من استفراد «الترويكا» بقيادة النهضة بالمرحلة الانتقالية وإقصاء بقية الأطراف وهذا ما دلت عليه مؤشرات عديدة سواء تشكيل الحكومة أو التصويت داخل المجلس التأسيسي ومن جهة ثانية تعلن أطراف حكومية وشخصيات في حركة النهضة أن هناك جهات سياسية لم تقبل بنتائج الانتخابات وتتآمر على استقرار البلاد وتستهدف إسقاط الحكومة. وهذا الاتهام المتبادل يعكس أزمة ثقة تستوجب تمشيا مختلفا من الطرفين.فعلى الترويكا أن لا تكتفي بالشرعية الإنتخابية وأن تدرك أن المرحلة الانتقالية تقتضى اشراك مختلف الأطراف السياسية والإجتماعية والمدنية التي شاركت في الثورة وتعتبر نفسها معنية بتحقيق نتائجها وعلى الأطراف التي أعلنت نفسها في المعارضة أن تدرك أن المرحلة الانتقالية لا تتحمل الانقسام إلى سلطة ومعارضة وأن الجميع معني بانجاح المسار الانتقالي وعليها أن تعمد إلى الإصرار على المشاركة مهما كانت سياسة «الترويكا». إنه لا بديل اليوم عن البحث عن توافقات أوسع وبناء الثقة والتخلي عن خطاب العداوة السياسية والبناء على المشاركات الكبيرة لانجاح المرحلة تنهيدا للانتخابات وفسح المجاتل للاستقرار السياسي وبناء المؤسسات الدائمة. من الأطراف القادرة اليوم على لعب أدوار في تحقيق الوفاق؟وهل يمكن أن يكون لراشد الغنوشي دور لتحقيق هذا الهدف؟ - أمام تعطل الحوار في هذه المرحلة وغياب أي مبادرات جدية للبحث عن التوافق أعتقد أن الأطراف التي ترى نفسها خارج الإستقطابات وتحضى بعلاقات جيدة مع الترويكا والمعارضة عليها أن تسعى إلى اطلاق مبادرات في اتجاه بناء الثقة واطلاق الحوار الوطني حول القضايا الخلافية. أعتقد أيضا أن الأستاذ راشد الغنوشي الذي يحتل مكانة متميزة داخل النهضة وربما يغادر رئاستها في المؤتمر القادم قادر على لعب دور محوري في اتجاه تقريب وجهات النظر وتحسين العلاقة بين النهضة ومنافسيها.خاصة أن موقفه الأخير من العلمانية قد وجد صدا إيجابيا في أوساط بعض النخب وهو بامكانه أن يعول على شخصيته المؤثرة في الأوساط النهضوية لتخفيض درجة التشنج تجاه المخالفين للنهضة وإماطة اللثام عن بعض القضايا التي تتطلب الحسم من الحركة وهو بكفاءته الفكرية والسياسية يمكن أن يكون محاورا جيدا لممثلي الأطراف السياسية الأخرى للبحث عن مبادرة سياسية تسهل عمل الحكومة في المرحلة المقبلة.
قيس سعيد (أستاذ القانون الدستوري): الوفاق ممكن بعيدا عن الحسابات الانتخابية الضيقة من موقعكم كمختص في القانون كيف تبدو أهمية الوفاق اليوم وانعكاسها على عملية كتابة الدستور؟ - لا بد من الوفاق لأنه بدونه لا يمكن التوصل إلى حلول في نص الدستور.وما يمكن التوصل إليه اليوم نتيجة التوازنات الموجودة في المجلس الوطني التأسيسي يمكن أن يتم تغييره بسهولة ويسر في مجلس نيابي يتحول في فترة قادمة إلى سلطة تأسيسية فرعية تقوم بتعديل الدستور ولا يمكن أن يوضع دستور في ظل غياب حد أدنى من التوافق لأن المسألة لا تتعلق بطبيعة النظام السياسي بقدر ما تتعلق بطبيعة المجتمع والمبادئ التي يمكن أن تحكم المجتمع المسائل التفصيلية مسائل ثانوية. لو لم يتم الاجماع على كلمة سواء بشأن المبادئ الكبرى حول مكانة الدين في المجتمع وحول حقوق المرأة وحول التوازن بين السلط وضرورة أن تكون كل القواعد المتصلة بتنظيم السلط ضامنة للحرية، أعتقد أننا لن نصل إلى وضع دستور يمكن أن يعمر طويلا فإذا كان الدستور سيوضع في ظل هذه التجاذبات وفي ظل هذه الاستقطابات الثنائية التي أسقطت على الشعب اسقاطا فلن يكون إلا دستورا لجهة معينة أو دستورا نتيجة لتحالف ظرفي محدد. قراءتكم للواقع تستشفون منها توجها قريبا نحو الوفاق أم أنه سيكون مخاضا عسيرا؟ - الوفاق اليوم يمكن لو خلصت النوايا ولو تم الابتعاد عن الحسابات الانتخابية الضيقة المتعلقة بالمواعيد القادمة أن نصل إلى وفاق لان المجتمع التونسي هو من أكثر المجتمعات انسجاما في العالم وليس هناك ما يفرق بين التونسيين. والمبادرة التي تحدثت عنها بشأن إعلان تونسي للحقوق والحريات والمواطنة يعد من بين المخارج الوفاقية التي يمكن البناء عليها لتجاوز الكثير من القضايا الخلافية .ويتفق حولها كثيرون باستثناء من يعتقدون أنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة أو أنهم أوصياء على المجتمع.
محسن مرزوق (أمين عام المؤسسة العربية الدولية للديمقراطية): المرزوقي وبن جعفر مطالبان بالدعوة إلى مؤتمر للوفاق الوطني الجديد إذا كنتم تتفقون مع أن الوفاق القدر المحتوم على أي أسس يجب أن يقوم هذا الوفاق من وجهة نظركم؟ - من الواضح أن الوضع السياسي للبلاد يفرض خيارين لا ثالث لهما إما الوفاق أو الدخول في صراعات سياسية مفتوحة. وأعتقد أنه من الأسلم والضروري الدعوة إلى وفاق جديد على أساس جملة من النقاط. أولا البحث عن خارطة طريق حول المرحلة الإنتقالية والاتفاق على موعد محدد للانتخابات القادمة وثانيا الإتفاق في مستوى صياغة الدستور على نقاط مشتركة تتعلق بالحقوق والحريات. المطلوب أيضا وضع برنامج إقتصادي وإجتماعي على امتداد سنتين يهدف إلى التخفيض من حدة المعاناة الاجتماعية ويقلص من أزمة التشغيل ويحقق بداية الإقلاع الإقتصادي. من جهة أخرى يجب الاتفاق على مستوى السياسة الخارجية بأن تكون تونس دولة حياد في المرحلة الإنتقالية لتجنب الخلافات التي قد تطرح بهذا الشأن. يتعين كذلك العمل على الإتفاق بأن تكون مسألة الحريات خطوط حمراء في هذه المرحلة.والتوجه المشترك نحو تجريم العنف السياسي وكل مظاهر التطرف. ومن ترونه قادرا في هذه المرحلة على الدفع باتجاه هذا الحوار والوفاق؟ -أنا أدعو السيدين مصطفي بن جعفر والمنصف المرزوقي لتولى مسألة الدعوة إلى مؤتمر وطني يمثل كل الأحزاب السياسية من أجل وضع خطة وتصور للوفاق الوطني الجديد وذلك في أقرب الآجال حتى لا تتفاقم وتتعكر أكثر الوضعية السياسية الحالية للبلاد.