قد ينسى الذين يستكثرون على أبناء الشعب الفلسطيني حقه في الحياة والحرية والكرامة أنه كلما سقط منه شهيد تقدم المئات يطلبون الشهادة، وأنه كلما أصيب بينهم جريح خرج الآلاف يتقدمون المظاهرات الاحتجاجية للمقاومة الشعبية، ليس حبا في الموت والفناء أو استهانة بإنسانية الانسان أو انكارا لحق البشر في البقاء، ولكن حبا في الحياة والبقاء واصرارا على الكرامة والتمسك بالأرض التي عليها ولدوا ونشأوا جيلا بعد جيل قبل أن يطل عليهم الاحتلال البغيض ويمارس عليهم أسوأ وأفظع الانتهاكات لإرغامهم على الرحيل أو مواجهة القتل بالتقسيط المريح... جرائم الاحتلال الاسرائيلي لا تقف عند حد ومخططاته لا تعرف خطوطا حمراء، بل ان عقلية الاحتلال القائمة على تدمير الآخر وإلغاء حقه في الوجود تجد لها في كل الازمات الدولية أو الاقليمية وفي كل التحولات والتجاذبات السياسية الحاصلة، المناخ المطلوب للتوسع والمضي قدما في تنفيد كل أنواع الجرائم والخروقات وهي عقلية ترتوي من صمت المجتمع الدولي وتتوسع بفضل عجزه وتجاهله واصراره على عدم محاسبة المعتدي أو تحميله أدنى مسؤولية ازاء جرائمه الموثقة . وفي الوقت الذي يسمح فيه الشيخ القرضاوي لنفسه بالافتاء بتحريم زيارة القدس واعتبار أن في ذلك تطبيع غير مقبول مع العدو الاسرائيلي، بينما تنصرف الجامعة العربية الى عقد الاجتماعات المتتالية لتسريع الخطى الى مجلس الامن وحثه على التدخل لحل الازمة في سوريا، وتعمد إسرائيل الى تحويل أنظار العالم والتلويح بحملة عسكرية وشيكة على ايران لقطع الطريق أمامها ومنعها من الحصول على السلاح النووي، يجد المسؤولون الاسرائيليون المجال مفتوحا لشن عدوان جديد على قطاع غزة المحاصر منذ نحو خمس سنوات دون أن يحرك ذلك ساكنا لدى المجتمع الدولي بما في ذلك اللجنة الرباعية التي أثبتت عجزها وقصورها عن القيام بأي دور مسؤول ومحايد من شأنه ان يخفف أعباء الاحتلال وتداعياته على مختلف فئات الشعب الفلسطيني... ومع أنه لا مفاضلة لممارسات الاستعمار ولا وجود لاستعمار دنيء وآخر أقل دناءة، فإن الواقع أن الجريمة البشعة التي استهدفت بالأمس قطاع غزة المنكوب ليست سوى شهادة اضافية لمسيرة الاحتلال الاسرائيلي الذي لا يرتوي من دماء الابرياء ولكنه لا يجد في المقابل رادعا له أو كابحا لنهمه واستعداده لسفك المزيد، وخلال أقل من أربع و عشرين ساعة قتل أكثر من 14 فلسطينيا في سلسلة غارات عشوائية لم تفرق بين طفل او شيخ و لا بين مدني أو ناشط في حركة "الجهاد" أو في صفوف "المقاومة الشعبية" أو الاسرى المحررين حديثا من سجون الاحتلال... فشريعة اسرائيل التي تجد لها الدعم المطلق والتأييد اللامحدود من صناع القرار في العالم كانت ولا تزال تقوم على خيارات مكشوفة لا موقع لحقوق الانسان ولا مكان للقانون الدولي ولاتفاقيات جنيف فيها، فشعار الاحتلال الاسرائيلي المتعارف عليه يجعل الابادة الجماعية والقتل البطيء طريقه للبقاء... حتى وقت قريب استعادت الشعوب العربية بعض الامل المفقود في أن تتبوأ القضية الفلسطينية الموقع الذي تستحق في المحافل الدولية في خضم الربيع العربي المتأجج الذي أعلن نهاية الطغاة وصحوة الشعوب العربية و ارادتها المعلنة لكسر قيود الخوف والتردد قبل أن تستفيق الشعوب على وقع الامر الواقع و على التحديات التي فرضها المشهد وما يتطلبه من صراع يومي مع أصحاب العقول العليلة من أعداء الثورة والانتهازيين الجدد من المنافقين والقافزين على الاحداث الذين لا يتوانون عن المغالطة وتزييف التاريخ كل ذلك لتحقيق مكاسب ذاتية وطموحات شخصية ضيقة لا يمكن بأي حال من الاحوال أن تخدم مستقبل الثورات العربية و تساعد على تحقيق أهدافها السامية ولا أن تساعد على دفع القضية الفلسطينية أو فرض الشرعية المغتصبة على عتبات المنظمات الدولية... ولعل مقاربة سريعة بين تلك الفئات الشعبية البائسة التي هبت لصنع الثورات وضحت من أجل أهدافها النبيلة وبين الذين تسابقوا لقطف ثمارها البكر ما يؤشرالى أن النوايا الصادقة والارادة السياسية الحقيقية المطلوبة ليست قريبة المنال وأن السجال سيظل سيد الموقف قبل أن يكون لميزان العدالة الانسانية موقعه بعيدا عن سياسة المكيالين والمعايير المزدوجة...