ستعرض على المجلس التأسيسي هذا الأسبوع وثيقة برنامج عمل الحكومة لسنة 2012 إلى جانب مشروع قانون المالية التكميلي، ولئن استعرضت بعض الصحف جملة من النقاط الواردة في الوثيقة، فإن قراءة متأنية في فحواها من حيث الصياغة تكشف عن مفاهيم مستحدثة وعبارات يمكن القول أنها تدخل القاموس السياسي في تونس للمرة الأولى.. تجديد لم يمرّ دون أن يترك تساؤلات واستيضاحات. ففي سياق الإصلاحات الديمقراطية ورد بالوثيقة «إرساء مجلس وطني للعقد الاجتماعي» وهو ما مثل مفاجأة خصوصا في هذه الفترة، والحال أن عديد الأصوات كانت قد اقترحت ميثاقا وطنيا، بل شهدت الأشهر الأولى لما بعد الثورة محاولات للوصول إلى ما يشبه الميثاق الوطني، لم تكلل بالنجاح. ولعل مشروع إرساء المجلس الوطني للعقد الاجتماعي الذي نجهل لحدّ الساعة خطوطه العريضة، يطرح تساؤلات عمّا إذا كان الأمر يتعلق بجملة من المبادئ التي تحيلنا إلى المفكر الفرنسي جان جاك روسو؟ أم المشروع سيكون تحديد جملة من المقوّمات والأسس والمبادئ للتعايش بين مختلف مكوّنات الساحة السياسية في البلاد؟ وهل سيتعداها ليشمل جوانب أخرى فكرية ودينية ومذهبية؟ وفي حالة إنجاز هذا المشروع وفي غياب أيّة معطيات حاليا بخصوص المبادئ العامة المتعلقة بالحقوق الكونية التي يتعيّن تضمينها في الدستور، ربما نكون أمام ازدواجية أو نجد أنفسنا أمام علامة استفهام كبرى عند تحويل وجهة بعض المبادئ العامة من الدستور إلى المجلس المقترح. عبارة تستحق التوقف عندها تضمنتها الوثيقة -كما أوردتها وكالة تونس إفريقيا للأنباء- وهي: الحرص على تكريس إدارة سياسية تشاركية عبر التشاور الدوري مع جميع الأحزاب الممثلة وغير الممثلة بالمجلس الوطني التأسيسي وبقية الفاعلين في المجتمع المدني، حول أهمّ وأدق الملفات والقضايا التي تواجهها البلاد في هذه المرحلة. الإدارة السياسية التشاركية مفهوم مستحدث لا بدّ من توضيحه لأنه ربما يتمّ تحميله ما لا طاقة له، خصوصا أن التشارك يعني ضمنيا الوفاق والخضوع لمنطق الأغلبية، وعلى أيّة حال سننتظر كيفية العمل بهذا المفهوم، أي مراقبة موازين القوى في ظله بين الترويكا وبقية مكونات المجتمع المدني. ربّما نجد في ما أوردته الوثيقة نفسا جديدا في الخطاب السياسي للحكومة، قد يؤسس لتعامل جديد وقد يفسّر ولو جزئيا الإدارة السياسية التشاركية: «...بناء تونس جديدة حرّة وديمقراطية أصيلة وحديثة نامية وعادلة آمنة ومتسامحة»، هذا الزخم من النعوت يكاد «يجتمع» لأوّل مرّة في خطاب الحكومة. وعلى صعيد آخر أكدت الوثيقة على «ترشيد الحالة الدينية على قاعدتي الاعتدال والوسطية بما يجعلها جامعة ومتجذرة في خصوصياتها من خلال تأهيل الإطارات وبناء مؤسسات فاعلة ومشعّة في محيطها محصّنة ضدّ كل أشكال التوظيف من الأشخاص والجماعات». لاحظوا للمرّة الأولى تستعمل في تونس «الحالة الدينية» والعبارة في حدّ ذاتها ربما تثير التوجس والخشية، لأنها تنطبق على بلدان تعاني إشكاليات في التعايش بين طوائف دينية أو مذهبية، أو تواجه تحديات من طوائف أخرىsectes) )، وهنا نشير إلى أن مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية كان قد أصدر سنة 1995 أول تقرير سنوي عن الحالة الدينية في مصر، تناول كل ما يتعلق بالأديان والمذاهب، وكل ما يتعلق بالجانب الديني إعلاميا وسياسيا، غير أنه منذ تلك السنة لم يستأنف نشره، ولعل ما حصل من تصاعد للتوترات الدينية في السنوات الماضية بمصر يمثل أحد جوانب التوقف عن إعداد التقرير. ولا شك أن بروز عديد المستجدات والظواهر في المجتمع -مثل التيارات السلفية وبداية الظهور المحتشم للتونسيين المسيحيين والشيعة والاعتداءات على مساجد وأماكن عبادة مسيحية ودعوات إلى قتل اليهود- من شأنه أن يفتح المجال أمام حالة دينية فعلية ومتحركة في تونس بما تتضمنه من إشكاليات وما تعنيه مستقبلا من تجاذبات داخلية وتدخلات خارجية. وبخصوص مكافحة الفساد يمثل حذف التحقيق من صلاحيات الهيئة الوطنية خطوة إيجابية، على اعتبار أن القضاء هو المخول له للبت في قضايا الفساد، خاصة أن إحداث مجمع قضائي بالمحكمة الابتدائية بتونس للتحقيق في مثل تلك القضايا وتفعيل جلب الفارين، يعني أن ملف الفساد قد يشهد تسريعا يأمله الجميع. لكن نفاجأ في مكان آخر وعندما يتعلق الأمر بالفساد في الإدارة بعبارة تثير الشك وهي أنه لا تسامح مع أيّة مخالفات إدارية أو عملية فساد خلال سنة 2012.. فهل يعني هذا طيّ ملف عمليات الفساد التي سجلت في السنوات الماضية؟ بالتأكيد هذا سؤال يستحق توضيحات أمام التأسيسي رفعا للالتباس وللتأويل. وتبقى الإحاطة بالعائلات المعوزة التي تناولتها الحكومة بوضعها هدفا يتمثل في التخفيض في مؤشر الفقر إلى النصف، وهي صيغة تحمل في طياتها القبول ببقاء حوالي مليوني تونسي يعانون الفقر، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن ربع التونسيين فقراء. كان على الحكومة أن لا تحدد نسبة لأن العدد كبير، وكان يفترض أن يكون في المقابل علاج الوضع بأكثر جدية، لأن الترفيع في المنحة القارة للعائلات المعوزة من 70 إلى 100 دينار في الشهر لا يمثل تحسينا لمستوى المعيشة، لأن المنحة جماعية أي لا تسند لأفراد، وبالتالي كيف ستعيش عائلة ب100 دينار والحال أن موجة الغلاء على أشدّها؟ وحتى الطبقة الوسطى تضررت قدرتها الشرائية فما بالك بعائلة ندفع لها 100 دينار لتخرج من الفقر؟ هذه بعض الملاحظات على نقاط جلبت الانتباه في وثيقة عمل برنامج الحكومة لما تبقى من سنة 2012، دون أن يعني ذلك استنقاصا من بقية النقاط، فلا بدّ من وضع النقاط على الحروف...