مازال الباجي قائد السبسي يحتفظ بجانب من شخصية الزعيم الحبيب بورقيبة، وهو المتمثل في محورية الذات لإنجاز عمل جماعي.. والمقصود هنا هو تكريس التوافق الوطني لإنجاح الانتقال الديمقراطي وفق رؤيته، التي ضمّنها في بيانين لا يفصل بينهما سوى ثلاثة أشهر. ويثير صدور البيان الثاني جملة من التساؤلات لعل أبرزها: ما محل البيان من الإعراب؟ بأيّ صفة أصدر الباجي قائد السبسي بيانه؟ هل يمكن القول أن قائد السبسي يشوّش على العمل الحكومي؟ هل الساحة السياسية تفتقر فعلا إلى شخصية مماثلة للوزير الأول السابق، قادرة على قراءة دقيقة لوضع الحياة العامة؟ لا بدّ من التأكيد على أن قائد السبسي يتصرّف من منطلق شعوره بمسؤولية ما في هذا الظرف، خصوصا أن توليه رئاسة الحكومة الانتقالية يجعله أكثر دراية وتعمّقا في كل ما يتعلق بحاضر البلاد ومستقبلها.. لكن بين الشعور والممارسة لم يتمكن الوزير الأول السابق من التخلص من محورية الذات، أي أنه قدم نفسه -ولو ضمنيا- على أنه حامي مسار الانتقال الديمقراطي، والمتجند للتدخل عند اقتضاء الأمر ضدّ أيّ انحراف في الممارسة الديمقراطية. ولكن هل يحق له إصدار بيانات وتضمينها بدائل، للإيحاء بأن الأمور ليست على ما يرام في البلاد؟ من البديهي أن الباجي قائد السبسي يحق له -كشخصية سياسية ذات خبرة طويلة- التعاطي مع الشأن العام وممارسة السياسة، غير أنه كان يفترض أن يفسح المجال لجيل جديد من السياسيين. وقد يكون تصرّف من منطلق غياب زعيم قادر على لمّ شمل تيارات بورقيبية وتجمعية وغيرها من التيارات الوسطية، لكن الفارق بين بيانه الصادر في 26 جانفي 2012 وبيان (21 أفريل 2012) هو أن البيان الثاني تضمن قائمة من الشخصيات متعددة التوجهات، في إطار لجنة عمل مؤقتة لتفعيل مبادرة الوزير الأول السابق ومتابعتها. إن وجود تلك القائمة كفيل بالحدّ من النزعة الفردية لتحرك قائد السبسي، كما أنه يوحي بأن الأمر سينتقل من مستوى المبادرة إلى مستوى التأسيس لحزب قادر على إحداث توازن في الحياة السياسية.. فالمعارضة سواء كانت داخل المجلس التأسيسي أو خارجه ما زالت تفتقر إلى وحدة الكلمة ووحدة الصف، بل إن الانتخابات التشريعية المقبلة ينتظر منها مزيد من التنوّع، أي إفراز كتل متوازنة خصوصا في عدد الأصوات المتحصّل عليها ومشاركة أقصى عدد ممكن من الناخبين. ولئن يرى البعض أن تدخل قائد السبسي المباشر في الشأن العام -تقييما واقتراحا- يشكل تشويشا على الحكومة التي لا ينكر أحد أنها فشلت في حل عديد المشاكل والقضايا والملفات، فإن منطق الديمقراطية يقول إنه لا يمكن منع أيّ كان من إبداء رأيه -دون أن يقدّم ذلك على أنه محاولة للإطاحة بالحكومة- ما دامت هذه التدخلات في إطار قانوني. المؤكد أن الباجي قائد السبسي -بحكم خبرته- وتجربته لديه القدرة على الاستقطاب والتجميع والتوحيد، وربما يلام على أنه -وبعد أداء دوره على رأس الحكومة الانتقالية الثانية- لم ينسحب من الساحة مثلما هو شأن رؤساء الدول والحكومات الذين انتهت ولاياتهم.. فهل سمعتم يوما الرئيس الفرنسي السابق فاليري جيسكار ديستان يقيّم أداء رئيس اشتراكي أو يميني؟ وهل تدخل رؤساء الحكومة السابقون الاشتراكيون بيار موروا وميشال روكار وأديث كريسون في نقد حكومات يمينية والبحث عن بدائل؟ ما يصبغ حياتنا السياسية لحدّ الآن هو التشتت الحزبي من جانب، ووجود ثلاثة أحزاب كبرى، ولا يمكن بالتالي توقع بدائل من أحزاب صغيرة من فصيلة «الصفر فاصل» -كما يحلو للأغلبية الحالية وصفها- وبالتالي يبدو أنه في غياب وجوه سياسية كبيرة لا مفرّ من الاستفادة من خدمات وزير سابق ومن عهد بورقيبة. الباجي قائد السبسي الحاضر الغائب.. والغائب الحاضر قد ينجح في جعل التاريخ يحتفظ له بعمل جليل.. يكاد يصبح «أنونيموس» الحياة السياسية التونسية.. فما إن يتدخل على الخط حتى يثير الجدل بين الطبقة السياسية وامتعاض الترويكا، إنه يكشف حقائق -دون أن يفصح عنها- بالتلميح وبالإشارة ومن خلال ما يمكن قراءته بين سطور بيانه الثاني. عبارة وحيدة شدّت انتباهي في بيان قائد السبسي هي: «إن المسؤولية الوطنية تدعو القوى الوطنية والديمقراطية المنخرطة في تيار أجيال الإصلاح والتحديث التونسية المتعاقبة إلى توحيد موقفها السياسي العام...» إنها إعادة توجيه للجميع، حكومة وأحزابا، نحو أمور دقيقة، هي أقرب إلى الأسس منها إلى المبادئ العامة، أسس تمثل حجر الزاوية في بناء تونس ما بعد الثورة... ولا يمكن القفز عليها.