ما حدث من أعمال عنف، وشغب، وتخريب وتحريض عليها بسبب معرض قصر العبدليّة لم يكن مفاجئا بالنسبة لي. فمنذ بروز السلفيين بعد سقوط نظام بن علي، ومثل هذه العمليات تكرر وتتجدد وتزداد استفحالا يوما بعد آخر وما أظن أن الهدف منها الدفاع عن «المقدّسات» وإنما ضرب الثقافة والفنون بجميع تعابيرها لكي تهيمن الرداءة ويعم الجهل، وتفسد الأذواق. وهو ما دأبت على فعله كل الحركات الدينية المتطرفة منذ الأزمنة القديمة وحتى هذه الساعة. وأول ما يتوجب قوله في هذا المجال، هو أنه ليس هناك تعريف محدد ومضبوط للمقدسات إذ أنها تختلف من شعب الى آخر ومن ثقافة إلى أخرى ومن دين إلى دين آخر، بل من شخص إلى شخص أخر لذلك لا يمكن لأي مجموعة أحتكارها لنفسها وأرتكاب الجرائم أو التحريض عليها بدعوى الدفاع عنها ولو نحن جارينا السلفيين والمعاضدين لهم في ما ذهبوا إليه عند مهاجمتهم لمعرض قصر العبدلية وقبل ذلك لنسفنا جل ما في تراثنا منذ العهود القديمة وحتى هذه الساعة وبذلك نحرم على انفسنا قراءة «الجحش الذهبي» لأبوليوس و»اعترافات» القديس أوغسطين، ولكنا كفرنا ابن رشيق بسبب تعريفاته للشعر، وابن خلدون الذي نعت أشباه السلفيين ب «المجانين» وب «دعاة فتنة» لا هدف لهم غير «الرياسة». ولو أقتدينا بدعاويهم، لدمرنا كل الأثار الرومانية البديعة على أرضنا باعتبارها «أوثانا»، ولحولنا مسرح قرطاج والجم الى اطلال تنعق فيها الغربان، ولأحرقنا جميع ما كتب الشابي، والمسعدي، والبشير خريّف وعلي الدوعاجي، وحسن حسني عبد الوهاب الذي عرف الشخصية التونسية بأنها مزيج من الثقافات والحضارات التي تعاقبت على بلادنا منذ أن خططت عليسة بناء قرطاج مستعينة بجلد ثور. ولو نحن أنسقنا الى ما هم يدعون إليه لمنعنا أنفسنا من الإستمتاع بالمالوف في ليلة صيفية مقمرة، عابقة بروائح الفل والياسمين، ولحاكمنا كل من يبيح لنفسه سماع أغاني صليحة، وحبيبة مسيكة، وعلي الرياحي، وأحمد حمزة، والهادي الجويني، ومحمد الجموسي، وسلاف وغيرهم.. وبذلك تصبح حياتنا مقفرة من الجمال والفرح والسعادة، وتنتشر في تونسنا الجميلة التي تغني بها الشابّي الوحشة والكساد وثقافة الموت. وهناك من عارضوا معرض قصر العبدلية لا بالإعتماد على المقدسات وإنما على معايير نقدية تعتبر اللوحات المعروضة رديئة، وخالية من الفن، وإذا ما كان الأمر على هذه الصورة فلماذا نثير هذه العاصفة الهوجاء حولها؟ ولماذا كل هذا الغضب، وكل هذا التخريب، وكل هذا الدمار الذي حدث بشأنها؟ فالرداءة تحكم على نفسها بنفسها، والعمل الفني الرديء إن كان رشما أم رواية أم شعرا ام مسرحا أم فيلما سينمائيا أم غير ذلك يذبل ويموت بطبيعته. وأما الفن الجميل والعظيم فباق إلى الأبد وهذا ما أثبته التاريخ بالحجة القاطعة والذي جلد وكفر بشار وجلده حتى الموت لم يمنع أشعاره من البقاء حية في الذاكرة البشرية حتى هذه الساعة وقد قتل آبن المقفع شرّ قتلة، غير أن كتابه «كليلة ودمنة» لا يزال فاضحا لظلم الحكام وتسلطهم. وكثيرون كتبوا الشعر في عهد الشابي، وسخروا منه ومن أفكاره الواردة في كتابه الرائع «الخيال الشعري عند العرب» غير أن التاريخ لا يذكرهم الآن لا بخير ولا بشر. فنسيانهم هو أفظع ما يمكن أن يحكم به عليهم. بقلم: حسونة المصباحي*