منذ فترة ليست ببعيدة لم يكن التونسيون يعرفون عن محافظ البنك المركزي والسياسية النقدية للبلاد إلا ذلك الإمضاء الذي يذيّل الورقات النقدية، التي أصبحت شحيحة الوجود في يد المواطن التونسي هذه الأيام.. لكن المشهد انقلب برمته منذ أسابيع ليصبح المحافظ حديث المجالس الخاصّة والعامة ويتصدّر نشرات الأخبار المحلية وحتى العالمية.. إقالة محافظ البنك المركزي مصطفى كمال النابلي وتعيين محافظ جديد قد لا تكون في حدّ ذاتها «بدعة» تثير الجدل فهي مسألة طبيعية تحدث في كل الدول.. لكن الذي حصل أن إقالة كمال النابلي لم تكن خالية من «شبهة» السياسة في مؤسسة كان من المفروض أن تشتغل وفق أجندات المصلحة الوطنية وليس وفق أجندات حزبية وإملاءات من الأغلبية الحاكمة. الترويكا بنواتها الأصلية حركة النهضة على ما يبدو لم تستسغ بعد فكرة أن تكون للدولة مؤسسات مستقلة بذاتها تشتغل بعيدا عن لعبة السياسة، فالدول الديمقراطية تكمن قوتها في مؤسساتها القانونية والدستورية والمالية المستقلة والتي لا سلطان عليها إلا المصلحة العامة وليس الحزب الحاكم.. فذهنية تسلط الحاكم ووضع يده على كل أجهزة ومفاصل الدولة تبدو ذهنية نتوارث «جيناتها» سياسيا، عبر أنظمة حكمنا المتعاقبة.. ثم إن أحزاب الترويكا وخاصّة حركة النهضة وبعض رموز المؤتمر لطالما رفعت في الانتخابات السابقة شعارات القطع مع العهد البائد ونظام المخلوع وأزلامه.. في المقابل نجدها تصادق «بالتوافق» على تعيين الشاذلي العياري محافظا جديدا للبنك المركزي والذي له تاريخ حافل مع النظام السابق.. وهذا الاستمرار في التناقض والخطاب المزدوج الذي نعتقد أنه أصبح يستفزّ الرأي العام ويثير حنقه بما قد ينعكس سلبيا على المستقبل السياسي للأحزاب الحاكمة.. وقد تكون استقالة حسين الديماسي وزير المالية موفى الأسبوع المنقضي القشة التي نتمنى أن لا تقصم ظهر اقتصاد تونسي متخبّط، وقد تعجّل الفوضى المالية والنقدية التي نعيشها ويتابعها العالم بقلق واضح بإصابته في مقتل.. البنك المركزي ووزارة المالية، شريانا المال والأعمال أنهكتهما «السياسة»، والمواطن خذله الساسة، والبلاد من انتكاسة إلى انتكاسة... فمن يسمع الاستغاثة؟