يحكم الناس على الرجل السياسي أو له من خلال تطابق أقواله مع أفعاله. أما إذا كانت الأقوال برنامجا انتخابيا ووعودا واضحة لا لبس فيها لحث الناس على تفضيل هذا على ذاك، فالأمر يصبح متعلقا بالمصداقية، وهي رأس المال الرمزي للرجل السياسي، الذي لا تُعادل قيمته أية قيمة مادية. أقول هذا لأن السياسي الذي منحتُه صوتي بلا تردد بناء على نقطة واحدة من برنامجه اعتبرتُها، ومازلت أعتبرها، حجر الركن في أي نظام سياسي نظيف، ألا وهي قضية الفساد. وقد أعطيت صوتي لحزب المؤتمر من أجل الجمهورية انطلاقا من الثقة التي كنت ممتلئا بها، أنه لن يتنازل قيد أنملة عن مكافحة الفساد ولن يُهادن ولن يساوم. بعد أكثر من سبعة أشهر من الانتظار والمتابعة والقلق الذي وصل إلى درجة الضجر، تراءت لي الكثير من الحقائق. طبعا الفاسدون في تونس معروفون فردا فردا، خاصة القطط السمان، لذا فمن السهل على أية حكومة أن تُفعل إجراءات المحاسبة وتطبق القانون على جميع من يثبت عليه الفساد، بلا محاباة أو مجاملة. لكن ماذا اكتشفتُ؟ أحرجني زملائي بقولهم «أصدقاؤك المطهرون ساكتون على أحد أصهار الرئيس المخلوع الذي دخل بفضل الزيجة المباركة إلى عالم المال والأعمال في سنة 1996، لكنه كان صفر اليدين فوجد نفسه سريعا على رأس مجموعة تضم بنكا كبيرا وسلسلة متاجر ضخمة وشركة اتصالات تُشغل شبكة هواتف جوالة وشركة تأمين ومصانع ميكانيكية ونيابة بيع سيارات وغيرها». وشاكسني أصدقائي بتلميحهم إلى ان كثيرا من تلك الشركات كان على ملك الدولة وتم التفويت فيه للصهر الغالي بأسعار رمزية أثارت استغراب الجميع في ذلك الوقت... لكن مصاهرة العائلة كانت تبرر كل شيء. كنت أتوقع أن يتحرك الرئيس، وهو الفارس المغوار ضد الفساد فيشير بالإصبع إلى هذه الحالة، وإلى أمثالها الكثيرة... كان يمكن أن يرفع شعار «من أين لك هذا؟» واضعا كل وزنه في الكفة، حتى ولو كان رئيسا مجردا من الصلاحيات، فهو لم يُجرد من رأس ماله الرمزي على حد علمي... وكنت أنتظر أيضا أن يتحرك لمنع المساومات الجارية هذه الأيام تحت الطاولة بين حلفائه السياسيين ورموز العهد البائد أمثال بلحسن الطرابلسي وصخر الماطري وحفنة من شركائهما... اليوم، طفا ما كان تحت الطاولة ليظهر فوقها للعيان، فهل لم تصل هذه المعلومات إلى مسامع الرئيس بعدما تم تجريده من أجهزة الأمن ومصادر المعلومات؟ وهل سيرضى بهذه المقايضة بدعوى أن الدولة بحاجة ماسة إلى المال، رغم أن مال المصالحة مع الفاسدين سيوضع في صندوق حليفه الأكبر مثلما تقول المعلومات المتواترة؟ تحمستُ لإسناد وزارة الإصلاح الإداري إلى حزب المؤتمر، كما تحمست أكثر لإسناد وزارة أملاك الدولة والشؤون العقارية إليه أيضا، أي إلى المناضل المرزوقي الذي جعل من المعركة ضد الفساد أم المعارك الديمقراطية. لكنه تخلى عن الأولى بدون أن يخوض معركة مع الحليف الأكبر، وسلم له الثانية بالتي هي أحسن على ما يبدو، متخليا عن روح برنامجه الانتخابي. أنا واحد من الذين يعتصرهم الندم على منح أصواتهم لمن لا يستحق، إلى فارس اتضح انه فارس القوافي، أما المعارك السياسية فهي ليست الساحة التي يُجيد القتال فيها. بقلم: عبد النور الدراجي