ايداع 9 من عناصرها السجن.. تفكيك شبكة معقدة وخطيرة مختصة في تنظيم عمليات "الحرقة"    الرابطة الثانية (ج 7 ايابا)    قبل نهائي رابطة الأبطال..«كولر» يُحذّر من الترجي والأهلي يحشد الجمهور    أسير الفلسطيني يفوز بالجائزة العالمية للرواية العربية    حادث مرور مروع ينهي حياة شاب وفتاة..    حالة الطقس لهذه الليلة..    أولا وأخيرا: لا تقرأ لا تكتب    افتتاح الدورة السابعة للأيام الرومانية بالجم تيسدروس    إيران تحظر بث مسلسل 'الحشاشين' المصري.. السبب    إنتخابات جامعة كرة القدم: إعادة النظر في قائمتي التلمساني وتقيّة    بسبب القمصان.. اتحاد الجزائر يرفض مواجهة نهضة بركان    البنك التونسي للتضامن يحدث خط تمويل بقيمة 10 مليون دينار لفائدة مربي الماشية [فيديو]    بين قصر هلال وبنّان: براكاج ورشق سيارات بالحجارة والحرس يُحدّد هوية المنحرفين    نابل: إقبال هام على خدمات قافلة صحية متعددة الاختصاصات بمركز الصحة الأساسية بالشريفات[فيديو]    الكشف عن مقترح إسرائيلي جديد لصفقة مع "حماس"    بطولة المانيا : ليفركوزن يتعادل مع شتوتغارت ويحافظ على سجله خاليا من الهزائم    تونس تترأس الجمعية الأفريقية للأمراض الجلدية والتناسلية    المعهد التونسي للقدرة التنافسية: تخصيص الدين لتمويل النمو هو وحده القادر على ضمان استدامة الدين العمومي    2024 اريانة: الدورة الرابعة لمهرجان المناهل التراثية بالمنيهلة من 1 إلى 4 ماي    مشروع المسلخ البلدي العصري بسليانة معطّل ...التفاصيل    عميد المحامين يدعو وزارة العدل إلى تفعيل إجراءات التقاضي الإلكتروني    انطلاق فعاليات الدورة السادسة لمهرجان قابس سينما فن    بودربالة يجدد التأكيد على موقف تونس الثابث من القضية الفلسطينية    الكاف: قاعة الكوفيد ملقاة على الطريق    استغلال منظومة المواعيد عن بعد بين مستشفى قبلي ومستشفى الهادي شاكر بصفاقس    الدورة الثانية من "معرض بنزرت للفلاحة" تستقطب اكثر من 5 الاف زائر    تسجيل طلب كبير على الوجهة التونسية من السائح الأوروبي    بطولة مدريد للتنس : الكشف عن موعد مباراة أنس جابر و أوستابينكو    جمعية "ياسين" تنظم برنامجا ترفيهيا خلال العطلة الصيفية لفائدة 20 شابا من المصابين بطيف التوحد    جدل حول شراء أضحية العيد..منظمة إرشاد المستهلك توضح    تونس تحتل المرتبة الثانية عالميا في إنتاج زيت الزيتون    الأهلي يتقدم بطلب إلى السلطات المصرية بخصوص مباراة الترجي    كلاسيكو النجم والإفريقي: التشكيلتان المحتملتان    عاجل/ الرصد الجوي يحذر في نشرة خاصة..    اليوم.. انقطاع الكهرباء بهذه المناطق من البلاد    فضيحة/ تحقيق يهز صناعة المياه.. قوارير شركة شهيرة ملوثة "بالبراز"..!!    وزير السياحة: 80 رحلة بحرية نحو الوجهة التونسية ووفود 220 ألف سائح..    عاجل/ مذكرات توقيف دولية تطال نتنياهو وقيادات إسرائيلية..نقاش وقلق كبير..    ليبيا ضمن أخطر دول العالم لسنة 2024    بمشاركة ليبية.. افتتاح مهرجان الشعر والفروسية بتطاوين    بن عروس: انتفاع قرابة 200 شخص بالمحمدية بخدمات قافلة طبيّة متعددة الاختصاصات    برنامج الدورة 28 لأيام الابداع الادبي بزغوان    في اليوم العالمي للفلسفة..مدينة الثقافة تحتضن ندوة بعنوان "نحو تفكرٍ فلسفي عربي جديد"    الإتحاد العام لطلبة تونس يدعو مناضليه إلى تنظيم تظاهرات تضامنا مع الشعب الفلسطيني    8 شهداء وعشرات الجرحى في قصف لقوات الاحتلال على النصيرات    مدنين: وزير الصحة يؤكد دعم الوزارة لبرامج التّكوين والعلاج والوقاية من الاعتلالات القلبية    الكاف: إصابة شخصيْن جرّاء انقلاب سيارة    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    وزير الخارجية يعلن عن فتح خط جوي مباشر بين تونس و دوالا الكاميرونية    السيناتورة الإيطالية ستيفانيا كراكسي تزور تونس الأسبوع القادم    بنسبة خيالية.. السودان تتصدر الدول العربية من حيث ارتفاع نسبة التصخم !    تألق تونسي جديد في مجال البحث العلمي في اختصاص أمراض وجراحة الأذن والحنجرة والرّقبة    منوبة: تفكيك شبكة دعارة والإحتفاظ ب5 فتيات    مقتل 13 شخصا وإصابة 354 آخرين في حوادث مختلفة خلال ال 24 ساعة الأخيرة    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عيون الطوفان :قيس عثمان
نشر في الحوار نت يوم 22 - 04 - 2011

صرخ التاريخ من عمق الأرض المباركة فهاجت الأحشاء وماجت وتدفقت السيول الغاضبة ثائرة و العيون منفجرة تشق أنهارا وأثناء.
و شقت السماء عاصمة الكلمات صيحة جبارة مزقت الحجب ولمعت البروق في السحب و جادت القرب فخاض الماء في الماء .
وتعالت ثورة الغضب بأعالي الأرض و تكسرت الصخور على الصخور و انهارت السقوف على السفوح و ألقى الجوف ما به من ماء.
ارتفع الماء بمركب بلادي ووقع الساقطون فباسم الله مجراها و مرساها.
يرشح من هذا التعبير أنّ ثورة المضطهدين يقف وراءها تفاعل ايجابي لعوامل ثلاثة هي سلطة التاريخ و سلطة العلم وسطوة الظلم.
1 التاريخ يراجع ذاكرته
أمام تسابق الأحداث و العوامل إلى القطيعة مع الماضي، كان لابد من تحديث المعجم و الكلمات لكتابة بداية جديدة و تصوير مشهد فجر جديد وولادة خلاقة تبشر بمستقبل يغيب عنه أطياف الطغاة و أئمة الباطل، أولائك الذين سرقوا من الشعب أحلامه و استباحوا كرامة أجيال ناضلت و بنت و شيّدت فحرمت و بخست حقوقها و أذلّت و شرّدت.
الآن تعود إلى الذاكرة أحاديث شعبية كانت تناقلتها ألسنة الناس في أيام خلت، مفادها أنّ سلطة الحماية الفرنسية، وهي التي قسّمت البلاد إلى مناطق إدارة عسكرية و مناطق إدارة مدنية، كانت قد أوصت الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة على إعتبار أنّه وريثها و خليفتها على مقاطعة تونس بعد رحيلها عنها، بوجوب الحرص و الحذر في سياسة و إدارة شؤون أهالي القبائل من آهلي مناطق الجنوب والوسط و الشمال الغربي و أعني بهم قبائل "الأعراض (الحزم) وبني زيد و المرازيق و العذارى و الهمامة و الفراشيش و الجلاص". و أن ينصب اهتمامه و عنايته بشأنهم على نحو ما لا يكونون معه من أهل الطمأنينة و اليسار كما لا يكونون معه في حال عسر شديد، أي أن يشغل أوقاتهم بالعمل و الكدّ و الجدّ لملاحقة متطلبات الحياة الضاغطة. و بذلك لا يكونون عليه عونا ولا يكونون له ضدّا.
الفرنسيون يقولون أنّ القبائل يطغيها لين العيش و حال الرفاهة والدعة و الانبساط ، حال كهذه تجعلهم أصلا لكل ثورة وشجرة نار لكلّ فتنة.
الفرنسيون يقولون أيضا أنّ أهل تلك القبائل هم أصحاب عزّة و نخوة يأبون على أنفسهم الظلم ولا يقنعون بالدون و يرفضون التجويع والإفقار و لا يركنون للعسر و الفاقة و الشدّة إلا قليلا.
فالسياسي الكيّس و الرشيد وفق هذه القناعة الفرنسية هو الذي يحسن تطبيق معادلة "لا للتجويع ولا للتمييع" نعم لحالة من التوازن و الاستقرار الاقتصادي المحكوم بآلة عمل دؤوبة لا تهدأ و لا تفتر. تستهلك الأوقات و تفني الأعمار و المقدرات و تستنزف الحيل و تبطئ بالكيل.
إلى هذا الحدّ كان الاستعمار يراكم تجاربه و يخرج بالخلاصات التآمرية ليؤبد قبضاته على مصائر الشعوب لتكون محكومة بالحاجات و مهيأة أبدا لتكون له أرضا و يكون لها سماء.
وقد عمل الحاكم الجمهوري الحبيب بورقيبة بهذه التعليمات و استفاد كما أفاد منها إلى حين ، بعد أن أضاف إلى قائمة المغضوب عليهم و الضّالّين من أهل القبائل المذكورة، أهالي المناطق الساحلية التي عرفت بمساندتها للحزب الدستوري القديم بزعامة المرحوم عبد العزيز الثعالبي و كلّ قبلة أو وجهة استقبلت بتأييد المناضل الشهيد صالح بن يوسف.
أمّا الحاكم الجمهوري بتفويض أمريكي زين العابدين بن علي فقد عمل بمقولة "جوّع كلبك يتبعك" و نسي أنّ أهل النخوة و المروءة ليسوا كلابا بل هم أسود ولو جاعوا أمّا الكلاب فهم بطانته الفاسدة و محيطه من عائلته و أصهاره، أولائك من أصيبوا بالبطر و أحاطوا بالأخضر و اليابس و سعوا في الأرض مفسدين حتى ضاقت بهم أقطار الأرض.
و لمّا أذن الله بطيّ كتاب و فتح جديد هبّت الدنيا بأحضانها للثورة و تألّبت الأسباب على اختلافها، فانطلقت القلوب مع الحناجر لتعزف أغنية الحرية، فقد أصبح الصبح فلا السجن و لا السجّان باق. و بعدما عمّد أحرار تونس و صنّاع عصر الحرية أرضهم المباركة بدمائهم الطاهرة و بذلوا أرواحهم الغالية الخالدة، رسموا بالأحمر القاني المهيب على سماء الخضراء أنّك حرّة يا بلادي يا عروس الشهداء و أنّ الوطن للأحرار عاد و أنّ دولة الظلم زالت و تهاوت قلاعها و حصونها و توارت إلى توابيت التاريخ فلولها و ذيولها.
هذا هو التاريخ يتحرك لينفض التراب عن نفسه كي يعلم من في الأرض أنّه من يخالف سنن التاريخ لابدّ أن يؤول حاله لا محالة إلى سوء المنقلب.
و ها أنّ العلم قد تجنّد بسلطانه و عدّته و عتاده متضامنا مع التاريخ الذي استيقظ للحياة لرسم النهايات الحتمية لمراحل الظلم و القهر و النسيان.
2 السحر ينقلب على الساحر
إذا كان قد جاء في تعريف مفهوم السحر أنّه علم الأمم القديمة فلعلّه بالإمكان اليوم أن نعرف العلم بأنّه سحر الأمم الحيّة.
بعد هذا التقديم يجدر القول أنّ نظام بن علي المنهار تعمّد الإطاحة بمنظومة التعليم إذ راهن باستمرار على تشويش المنظومة العلمية و التربوية عبر إدخال التغييرات و المراجعات و التحويرات الاعتباطية و الممنهجة في ذات الوقت على البرامج بوتيرة متسارعة، أضلّت المعنيين من أهل الميدان و أضلّت المتعلمين و أولياءهم و أربكت أسرة التعليم على اختلاف مستوياتها و أحدثت جدلا غير معهود و اتهاما غير مسبوق يخوض فيه من تقع على عاتقهم مسؤولية التعليم في مراحله الثلاثة حول من المسؤول عن تدهور و تقهقر المستوى؟ و إلى أين نحن ذاهبون؟
كما وقع الرهان على تصفية الجامعة التونسية بقصد تقزيمها و تحجيم دورها لأنها تشكل قلعة من قلاع النور و الحرية و نافذة تطّل على المستقبل و حبل نجاة لأبناء هذه الأمة، و ذلك بالوسائل التالية :
_ ضرب الأقطاب الجامعية التي كانت على مرمى حجر من المرور من مراحل التخصيب العلمي إلى مراحل الإنجازات و الابتكارات و تحقيق الأحلام و الآمال، و ذلك بتشتيت الجامعة في الآفاق بدعوى اللامركزية الخادعة عن طريق بعث مؤسسات جامعية في شتى الولايات دون خطّة تحفل بإعداد الأرضية و المناخ و الأسباب المناسبة لنجاح عملية الزرع الجديدة. على هذه الشاكلة مزّقت الجامعة كلّ ممزّق وتصدّع بنيانها الأمين و هام الأساتذة الأفذاذ على وجوههم في الشتات ومنعوا الوسيلة والإمكانيات وأعطيت الصفات للنكرات ليعتلوا منابر الجامعات و يحملوا رسالة التعليم العالي. فأسفرت عن مواليد مسخ غريبة في سياق تاريخ التعليم التونسي.
_ ضرب الجامعات الخلاّقة ذات الصيت و التاريخ النضالي الحافل و الزاخر بالرجال و الصفحات المضيئة مثل كلّيتا الحقوق و العلوم الإقتصادية بتونس و سوسة و كلّيتا الآداب و العلوم الإنسانية بمنوبة والقيروان و جامعة الزيتونة التي كان يطلق عليها مسمّى كلّية الشريعة و أصول الدين، وذلك بتمييع البرامج و تعويم الشهادات و خنق الأجواء الحرّة داخلها و مراقبتها عن قرب مراقبة مستفزة و محبطة بواسطة خلايا سرطانية من العناصر الدستورية الانتهازية الموظفة من طلبة و هيكل تعليمي .
وللسائل أن يتساءل و نحن بهذا الصدد ما هي الغاية من التآمر على التعليم؟
إنّ القراءة الاستقصائية للمراجعات المتكررة للبرامج الدراسية و المناهج التربوية تبوح لنا بأنّ الغاية الحقيقية و الأكيدة من ذلك هو صنع و إحداث القطيعة في التواصل العلمي و المعرفي بين المتعلمين بحساب السنوات لا بحساب الأجيال فحسب، أي أنّهم لا يهدفون فقط إلى خلق شرخ معرفي و ثقافي بين الأجيال المتعاقبة بل بين أبناء الجيل الواحد . إنّهم يريدون إنتاج مجتمع متآكل متضارب متعصّب متقاطع غير متجانس لا يجتمع فيه اثنان حول هدف واحد. و هذه الغاية بحدّ ذاتها جريمة نكراء بحق الأرض و السماء. هذه الغاية الحقيرة و الوضيعة التي تهدف إلى تقويض التواصل بين مختلف الشرائح العمرية لمجتمعنا كانت تصبّ في أرصدة سوق الطباعة و يعود بعض ريعها لفائدة إطارات قطاع البيداغوجيا المتآمر المكلّف بتأليف البرامج و المناهج التعليمية المتهمة و المريبة ممّا أسميه ( الطابور الخامس البيداغوجي).
كما يهدف النظام القديم من خلال تعويم الشهادات العلمية إلى:
أولا تحقيق معدلات نجاح مكوكية مزيفة لإشعار الجميع بجدوى المنظومة و لتعميم شعور الفرح كلّ نهاية موسم دراسي لدى كلّ من التلاميذ وطالبي العلم و الأهالي. هذا الفرح الموهوم من شأنه أن يفرج آنيا عن كربات المكروبين و أن يغذي بالأمل صدور المكبوتين و لا يعد الشيطان أصحابه إلا غرورا. حتى إذا ما استسلمنا للفرح الكاذب و نسينا ما ابتلينا به، تحركت شهواتنا و غرائزنا إلى الإسراف و الاستهلاك فتنشط حركة الاقتصاد الطفيلي لتستنزف الإمكانيات الشحيحة للمواطنين في الإنفاق على مهرجانات التهاني و تبادل الأماني.
ثاني تلك الغايات من وراء تعويم الشهادات العلمية أن يصير و يوفق الكلّ إلى غايته من التحصيل العلمي و تسند إليه شهادة في ختم الدروس في شتى أبواب المعرفة و العلم و التكنولوجيا. إنّ القراءة السطحية لهذه الغاية تلزمنا إلى هذا الحدّ من المطاف أن نقول أنّه لا ضير أنّ ينجح كلّ أبناء الشعب بل إنّه لمبعث فخر و اعتزاز أن تكون نسب النجاح قياسية، و لكنّه و بعد شئ من التأنّي و التروّي و متابعة النتائج و الأحداث ندرك أنّ الأفواج المتدفقة من الناجحين إلى سوق العمل لابدّ لها أن تخضع إلى امتحانات مهنية تفاضلية و انتقائية و غير عادلة ينجح فيها القليل و يرسب فيها الكثير الأغلب.
أمّا بالنسبة لهذه الفئة القليلة فقد يكون البعض منها قد حقق نجاحا مستحقا. و قد يكون البعض الآخر قد أحرز هذه النتيجة لأنّه من المحاسيب أو الراشين أو معروف بالولاء و موعود بالوفاء. و أمّا بالنسبة للفئة التي لم تدرك النجاح و لم يدركها التوفيق فذلك قد يردّ إلى ضعف التحصيل العلمي و هشاشة المؤهل المسجّل بالشهادة المسندة أو يردّ إلى عدم نزاهة الفحوصات المهنية التي تضبط فيها قائمة الناجحين قبل الإعلان عن مواعيد إجراء الامتحانات. و يترتب عن هذا الوضع الضبابي مايلي:
_ سقوط أو نهاية العمل بالحق الدعائي الأجوف القائل بالمساواة بين المواطنين أمام المرفق العام.
_ الانحطاط التاريخي بمجتمعنا إلى مستوى النظم الإقطاعية و المجتمعات القروسطية و ذلك بالاستنساخ عن هذه العهود الغابرة نهجا رجعيا في إسناد الوظائف و فرص العمل و الاستثمار لأصحاب الشهادات العلمية الواحدة حسب الانتماء الاجتماعي و الوضع الأسري للمتر شح، إذ يكلف أبناء العائلات المنتسبة بالوظائف السامية و المناصب المرموقة. و يكلف أبناء العامة المضطهدة من الناس بما لا يفوق دائرة تطلعات أجدادهم. فيقع بذلك دعوة أصحاب الجدود العالية و الحظوظ الوافرة للعمل بالبنوك و المؤسسات المالية و الإذاعات و القنوات التلفزية و القضاء و المحاماة و المطارات و الموانئ و كبرى الشركات و تسند إليهم المراكز النافذة ، أو يحصلون على المشاريع العظيمة المرشحة للنجاح و الغنيمة مع تمويل بنكي سخي و كريم و تشجيع و متابعة من أهل الذكر و توفير شبكات الأمان لعدم الوقوع في الخسران.
أمّا أبناء المنسيين من أصحاب الكفاءات فحسبهم صندوق 21/21 الذي يتيح لأبناء المزارعين أن يستغلوا أرضا جرداء ليس بها ماء حدودها الصحراء على سبيل الكراء، كما يهيب بعزائم اللاجئين إليه أن يتسموا بالواقعية ويتسلحوا بالجرأة ليتجردوا من غرور الشهادة العلمية ويقتحموا سوق الخضروات و العطارة و المخابز و الفحم و تربية الأرانب و الدواجن ورعاية النحل و غيرها من مثل هذه الآفاق التي تعد بها قريحة الصندوق .
وفي ظلّ هذا الصراع الاجتماعي و على حصير هذا المستنقع الحضاري، نمت مجموعات انتهازية طفيلية لصوصية في مختلف الأوساط و كلّ الجهات من أصحاب الولاءات استغلت هذا الواقع الأليم فأنشبت أظافرها و مخالبها في جثة هذا الشعب الجريح و أكلت من لحمه و عظامه و امتصت من عروقه و دماءه. أوهمت الحالمين بفرص العمل بالداخل أو بالخارج و سرقت أموالهم و عبثت بأحلامهم و آمالهم و سخرت من آلامهم. و في أحسن الأحوال أصبح التونسي فريسة للابتزاز من أجل الحصول على حقّه المشروع في العمل.
_ أمّا الغاية البعيدة و الأهم من وراء تعويم الشهادات العلمية فهي و بلا شكّ أو مراء محاولة سرقة الزمن من الشعب و إطالة عمر دولة الظلم و ترسيخ قواعدها و دعائمها.
لعلك أخي المواطن لو قدّرت عدد السنين التي يمضيها المتعلمون على مقاعد الدرس و الطلب خلال المراحل التعليمية المتعاقبة وصولا إلى نيل الإجازة في التعليم العالي مشفوعة بفترة انتظار قدرها المتوسط ستّة أعوام للحصول على عمل، يكون الإنسان قد طوى من عمره 23 سنة، هي لو فكّرت مدّة حكم الديكتاتور الحاكم منذ 1987 ,
هذا غيض من فيض من عورات النظم و البرامج التعليمية المتآمرة على مستقبل الأجيال و مستقبل الأمة.
3_ سطوة الظلم
أمّا عن المظالم فمحيطها عزيز عن الإدراك و نطاقها مفتوح الحدود و غير قابل للحصر، لكنّنا ونحن بهذا الصدد لابدّ أن نتطرق إلى بعض تجلياتها ممّا أحاط به العلم و احتفظت به الذاكرة في المجالات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية.
_ الإستبداد السياسي والإخافاق الإقتصادي و الإجتماعي
عرفت البلاد في حقبة بن علي سيئة الذكر حالة انحسار للمسرح السياسي وانغلاق في الفكر و خنق للحريات العامة و شلّ للحراك الديمقراطي. فبعد الوعود الزائفة بالانفتاح الديمقراطي و إطلاق الحريات السياسية و الإعلامية و إعطاء العهود باحترام الدستور و تبني موقف رافض و صريح من البدعة البورقيبية الهدّامة المتمثلة في الرئاسة مدى الحياة في البيان الكاذب في 7 نوفمبر 1987 . و بعد الانتشاء الحالم و الخضوع الساذج لمفعول هذا السحر الماكر كما بدا على الأسر السياسية و الثقافية و الإعلامية العديدة بالبلاد. انزلقت غالبية الأطياف السياسية في غمار أوّل معركة انتخابية حول مقاعد مجلس النواب. و كان أبرز المنافسين في ذلك الحين يناضلون تحت راية القائمات المستقلة. تلك القائمات استطاعت في واقع الأمر أن تحقق اجتياحا مدوّيا. و كانت مؤهلة للفوز بأغلبية المقاعد، لكنّ الخديعة السياسية كانت حاضرة بكلكلها و أفرزت نتائج مخيبة للآمال. و ناب عن الأجواء الديمقراطية تسلّط المجهر الأمني و التقاطه للمشهد الانتخابي و إحصاء الفاعلين الأساسيين على الساحة السياسية.
وبعد قراءة هذا المشهد و تحليل الخارطة على الأرض و فرز الألوان و الأحجام، و بعد سبر ترددات و مخلفات العملية الانتخابية المحبطة على الرأي العام الداخلي و الخارجي، خرج مفكرو العهد الانقلابي بالخلاصات التالية :
_ أنّ حركة النهضة قد تعاظم دورها و أصبحت تشكل خطرا على الوضع الأمني و السياسي العام بالبلاد لأنها حققت انتشارا أفقيا بمساحة الخارطة.
_ أنّ هذه الحركة نجحت في اختراق كلّ الطبقات الاجتماعية و المستويات العلمية و الثقافية إذ انضمّ إليها الفقراء و الأغنياء و عزّز صفوفها العلماء و الخبراء و النخب.
_ أنّ هذه الحركة تتميّز بقوة و سرعة مبادرة برقية مخيفة إذ تقتحم الساحات النضالية بجرأة غريبة و تنتزع مواقع غير تقليدية فتحرز من خلالها معدلات استقطاب وولاء غير معهودة و الأمثلة على ذلك عديدة:
_ مواقع تقليدية : المساجد ، الإحاطة بالحجيج بمناسبات الحجّ و العمرة، حضور الأفراح، زيارات المواساة و العزاء و تشييع الجنائز عند الموت، كلية الشريعة و أصول الدين، كليات العلوم و الطب و الهندسة ........
_مواقع غير تقليدية ثقافية : دور الثقافة، جمعيات السينما و المسرح، المنظمات الكشفية، الجمعيات الرياضية، القاعات الرياضية الخاصة......
_ مواقع غير تقليدية معنية بالشأن السياسي و النقابي: المنظمات و الاتحادات والروابط مثل الإتحاد العام التونسي للشغل ، الإتحاد العام التونسي للطلبة ، الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، و مختلف الروابط و الاتحادات المهنية للمهندسين و المحاماة و الأطباء و غيرها كثير.
هذا الزحف بوتيرة عالية على كلّ المواقع و الأصعدة المؤثرة في الحراك السياسي الداخلي و هذا السباق المحموم مع عقارب الساعة لإنجاز المشروع السياسي و ظهور علامات و مؤشرات دالة على وجود الدعم الخارجي و الاتصال بمنظمات و دول خارجية و تدفق الأموال إلى الداخل و توفر الإسناد الإستراتيجي للحركة لتأمين مسارات الملاذ الآمن للعناصر القيادية و الحركية عند اللزوم . كلّ هذا كانت تراقبه الكاميرات الخفية للأمن العام السياسي و كانت تقف منه إدارة الحكم موقف الريبة و الشبهة و الحذر الدائم.
في المقابل ذهبت الحركة بعيدا في الجرأة على قلاع الدولة الحصينة و قد تكون أفلحت في اختراق المرفق الأمين للدولة المتمثل في المِؤسسة العسكرية عبر ائتلافها و تجنيدها لعدد مختلف عليه من أعوانها و إطاراتها ممن أظهروا الولاء للمنظمة و العداء للنظام القائم.
و أمام ما أمكن جمعه من معطيات عن خطر هذه الحركة وقع العمل المتلازم بواسطة الجهاز الإعلامي بمختلف مكوناته و هياكل الحزب الحاكم و الأجهزة الأمنية و الجهاز الإداري العام على تكثيف الصورة المخيفة للحركة الإسلامية وإخراجها بمظهر الخطر الداهم و الوشيك الذي يهدّد البلاد و العباد و ينذر بخراب العمران . و قد استغلت السلطة الحاكمة في البلاد الحماسة المفرطة التي يظهرها عناصر التيار الإسلامي على مساحة الساحات النضالية المختلفة لتوريط هذه الحركة في صراعات مستعرة و صدامات دامية مع ممثلي مختلف ألوان الطيف السياسي و الثقافي و النقابي.
و قد نجحت سياسة التضخيم و الترهيب من الزحف الأصولي في تأليب القوى السياسية و النقابية بالبلاد لمقاومة هذا المارد المتوحش الذي يتحفز للانقضاض على السلطة و لا تعد أطروحاته المعلنة و المضمرة و لا أساليبه في التعاطي مع المحيط إلا بغريزة الإنفراد و الانقضاض و الإقصاء و العقاب. و قد ظهرت نتائج سياسة التفريق و مؤامرة التمزيق من
خلال تصّدع صرح الوحدة الطلابية بحكم النشأة المتلازمة في الزمن لنقابتين تدعيان الشرعية في تمثيل الطلبة و هما الإتحاد العام لطلبة تونس الذي أعلن عن ولادته من خلال إنجاز المؤتمر الثامن عشر الخارق للعادة . و قد ضمّ إليه كافة الناشطين و القوى اليسارية باستثناء من يثبت انتماءه و انخراطه بالحزب الشيوعي التونسي . و النقابة المنافسة هي الإتحاد العام التونسي للطلبة التي ضمت إلى صفوفها العناصر الطلابية لحركة النهضة وكلّ طالب يعلن تبنيه للمشروع السياسي الإسلامي و لو كان من خارج الحركة ولو لم يكن كذلك من المتقيدين بالعبادات. و قد اختارت بعض التيارات السياسية أن تنأى بنفسها عن هاتين النقابتين و من تلك التيارات من كان ذا أثر و حضور في الساحة الجامعية مثل التيار القومي الناصري و منها من كان أقلّ شأنا و أضعف أثرا مثل البعثيين.
وقد لاحظ الذين واكبوا تلك المرحلة أن التنوع استحال إلى تشرذم و انقسام و تشظّي فتآكل الجامع المشترك الطلابي كما تآكل الجامع المشترك النقابي على مساحة ميدان الاجتماع النقابي و السياسي بالبلاد. وانقادت قوى المعارضة الوطنية انقيادا إنفعاليا إلى المصير المفخخ إذ تأثرت حركة النهضة بهبوب رياح نصر حالمة وأبدت من مظاهر استعراض القوة حينها ما كان يجب أن تداريه و تتعفف عنه بل إنّ كوادرها سارعوا إلى الإعلان عن موعد إنجاز المشروع السياسي الإسلامي و قيام الجمهورية الإسلامية في أكتوبر من سنة1991 و تحركت خلايا الجمعية بأمر عمليات في كلّ صوب و إتجاه لتنفيذ خطة الانقضاض على الحكم. و بالمقابل انحاز القسم الأعظم من حركات و أحزاب اليسار مدفوعين بعامل الخوف من المصير انحيازا كليا إلى جانب السلطة القائمة و لم يدخروا وسعا في معاضدة الدور الأمني بشكل طوعي و تطوعي و بشتى وسائل الدعم و أساليب الإرفاد ، عن طريق الإشغال اليومي المخطط للعدو المشترك ألا وهو تنظيم النهضة تارة و التعاون البوليسي بواسطة التقارير الإخبارية تارة أخرى بغاية الكشف المبكر لخطط هذا العدو و توريطه قانونيا توريطا قائم البرهان و الدليل. و في هذا الوقت الدقيق أدخلت على مسرح النزاع طائفة ثالثة آلت إليها الكلمة الأخيرة في حسم المعركة لفائدة النظام القائم نظرا لخطورة تمركزها و مكانها القريب من العدو. إنها شبكة متكونة من أفراد نوعيين يتميزون بخصال أمنية عالية وقع زرعهم بعناية من طرف البوليس السياسي في مختلف الأوساط السياسية و النقابية فانصهروا سريعا مع هذه البيئة المفتوحة و حققوا نسبة اندماج عالية وتفوق حركي متميز أهلهم للعب أدوار متقدمة و أهلهم لاحتلال مراكز حسّاسة أتاحت لهم أن يكونوا على مسافة قريبة من مواقع صنع القرار أو يقفون عند محطة من محطات استقبال القرار. و لم يسلم تنظيم النهضة من هذا الاختراق نظرا لغياب عامل الخبرة و السعي المتهور لتوسيع قاعدة الحلفاء و تشريك الجمهور المتأثر بالخطاب الأصولي التاريخي. فأصيب في مقتل من خلال الدائرة المفتوحة للاستقطاب و الانتشار . تلك الدائرة التي استعملها البوليس لتوطين و زرع عملائه داخلها. و أشير بهذا الصدد على سبيل الذكر لا الحصر إلى الإتحاد العام التونسي للطلبة الذي أقيم ليكون منصّة أو بوابة عبور إلى خارج التنظيم فتحوّل إلى منصّة و بوابة عبور إلى داخل التنظيم, وفي هذا المعترك سجّل بعض اليسار و القوى القومية انسحابهم من ساحة الصراع نظرا لأنّ طابع هذا الصراع إنفرادي و غايته إقصائية إذ لا يرى أصحاب هذا الموقف لأنفسهم مكانا داخل هذه المعادلة.
وقد استطاع النظام نهاية هذه الأحداث أن يحرز السبق إلى الانقضاض على حركة النهضة و تقويض نظامها الداخلي و تفكيك خلاياها الفاعلة وشلّ حركتها و اتصالاتها و ملاحقة قادتها و عناصرها ثم الزجّ بهم في غياهب السجون بعد تجريمهم و القضاء عليهم بأحكام جائرة غاب عنها واعز الأمانة وميزان العدالة كما غابت خلالها فضيلة التعالي عن الشماتة و الانتقام و شيمة العفو الأبوي عند المقدرة و إدراك حقيقة أن الخصم السياسي ليس إلا أخا في الدين أو نظير في الإنسانية أو شريك في الوطن.
و بعد هدوء غبار العاصفة أسفرت السماء عن أرض جرداء لا خضرة فيها و لا ماء. فاستحكم الأمر للقابض على السلطة و استبد بالمال و القرار بعد أن تنكّر لحلفاءه الذين أدركوا متأخرا أنّه لم يعد لهم من دور و لا جدوى إذ أوقعوا بأيديهم الجدار الذي كان يخفيهم. و كافأ بن علي عملاءه لما أثبتوه من التزام و انضباط و انقياد و تفان في الولاء و صدق في الإخلاص فأغدق عليهم المنن و ألبسهم الحلل و استعملهم بصفة رسمية في المواقع الحساسة في جهاز الأمن العام و الأمن الرئاسي كما قلّد النخب منهم المسؤوليات الجسيمة و الخطيرة في المراكز القيادية للحزب و الدولة. و يحضرني في هذا المقام أسماء لمع إسمها و علا سهمها أفرزها هذا المخاض التاريخي مثل :
_ العميد البشير التكّاري الذي سميّ رئيسا أولا للمحكمة الإدارية العليا نظرا لخطورة هذه المؤسسة القضائية ثم عين وزيرا للعدل و طالت ولايته على رأس هذه الوزارة حتى تمكن من إخضاع سلطة القضاء و ضرب مصداقيته و استقلاليته و حارب المحامين الشرفاء و أعاق إشعاعهم على محيطهم و أعمل آلته التفكيكية في أواصر إتحادهم المناضل، كما سخّر سلك عدول التنفيذ كأداة طيعة و خطيرة للمسّ بالعدالة و تكريس المظالم. ثم تولى وزارة التعليم العالي حيث تنسج خيوط المؤامرة العظمى على مستقبل هذا الشعب.
_ شخصية أخرى لا تقّل خطرا و أعني بها أستاذ القانون الدستوري زهير المظفر الذي أسندت له الأمانة العامة المساعدة للحزب مكلفا بالتكوين العقائدي و السياسي ثمّ تقلب في عديد المناصب الحكومية و الإستشارية الهامة.
_ العميد جلول الجريبي الذي أوكلت إليه مهام وزير الشؤون الدينية بعدما نجح في تخريب جامعة الزيتونة و جعلها وكرا للدعارة الأخلاقية و الحضارية و السياسية.
_ الأستاذ عياض الودرني الذي كلف بمهام استشارية و حكومية عديدة و بالغة الأهمية و الخطورة وهو من تنسب إليه براءة اختراع أو بالأحرى تبنّي سياسة تجفيف الينابيع.
الأستاذة الشاذلية بوخشينة التي عينت على رأس إتحاد المرأة التونسية، وهي التي عرفت بأفكارها العلمانية الأتاتوركية المستلبة و بضلوعها في محاربة الحجاب ووضع مشاريع القوانين المسؤولة على تدمير و تصدع الأسرة.
_ سمير العبيدي فتى الجامعة المدلّل و الأمين العام للإتحاد العام لطلبة تونس، وهو من عرف بتبني الأفكار الماركسية و ارتداء القمصان البنفسجية و حمل الخوذات البوليسية، دعي مؤخرا بعد إعادة الاختبا ر لتولي وزارة الشباب و الطفولة ليكون واجهة دعائية خادعة داخليا و خارجيا .
و قائمة العملاء السرّيين تطول..........................
إذا ألخص و أمضي للقول أنّ النظام أهمل الحلفاء و كرّم العملاء و ألحقهم بنسبه و استبدل المعارضة الحقيقة بمشهد سياسي جديد مصنع على الطريقة التونسية المبتكرة مقتضاه إرساء تعددية سياسية جديدة إذ لم يكن من هذا الأمر بدّ. و عملا بهذه الرؤية تطوّع بعض المنظورين الحزبيين للانسلاخ عن الحزب الأمّ لتأليف أحزاب معارضة تحمل شعارات الحركات النضالية الغابرة و تعلن مبادئها الماضية مع بعض التشذيب و التعديل، لعلّه يقع استقطاب و احتواء و إعادة تجميع المهووسين بتلك التوجهات في فضاء حزبي علني مراقب. و لتشجيع هؤلاء القادة الجدد للمعارضة، وقع إمدادهم بالمال و فتحت أمامهم الأبواب السرية لمكاتب البوليس للاتصال و التنسيق. كما أصبح هؤلاء من المقربين و يحظون بالتكريم و يدعون في المناسبات الشرفية إلى الموائد كجزء من الصورة العامة. ثمّ إيثارهم بحصة مأوية مشجعة من المقاعد التمثيلية في البرلمان بمجلسي النواب و الشورى و المجالس البلدية المحلية. إذا هؤلاء هم الشركاء في السلطة و الثروة باعتبار الدور المنوط بهم لاستيعاب الداخل و مغالطة الخارج.
أمّا إذا تطرقنا إلى الحديث عن الإخفاقات في ميدان المال و الأعمال و الاقتصاد فإنّه يمكن أن نقف على الحقائق التالية :
_ غياب التنمية و التأهيل الاقتصادي في كثير من المناطق المحرومة و خاصة بالوسط و الشمال الغربي و الجنوب الغربي من البلاد التونسية.
_ غياب الشفافية عن برنامج خوصصة الشركات العامة الذي شابه الفساد و شوهته الاتفاقات المشبوهة خاصة عند التفويت في مؤسسات و منشآت معروفة بتحقيقها لنسب نجاح و إنتاج عالية بمقابل لا يتناسب مع قيمتها الحقيقية و حيث لا يوجد موجب ضروري للتفويت و التفريط فيها. و قد تورط الإتحاد العام التونسي للشغل و بلا شك ممثلا في قيادييه بالاشتراك و التزيين و المباركة والإخفاء القصدي و المتعمد لأدلة الجرم في حق المال العام و الحقوق المكتسبة للعمّال المغدورين و لآفاق فرص التشغيل لطالبي العمل المفترضين.
_ فرض سياسة جباية هدامة تأثرت منها قطاعات إنتاجية حيوية كانت في أشد الحاجة إلى الإسعاف و التشجيع.
_ التضخم المالي الناجم عن الترفيع العبثي في الأسعار بعد كلّ مراجعة للأجور، سياسة أطاحت بالقيمة الشرائية للعملة و أرهقت الطاقة الشرائية للأسرة التونسية.
_ إتساع الهوة الطبقية بين فئات المجتمع و اتساع المجال للإثراء الفاحش و السريع لفئة ضيقة على حساب أغلبية محرومة مغلولة الإمكانيات من فئات الشعب و تقلص الطبقة الوسطى.
_ إتساع رقعة البطالة و عجز برامج التشغيل المضطربة و الاعتباطية عن استيعابها أو إيجاد المخارج و المعالجات العاجلة و الدائمة لهذه المعضلة.
_ الإصرار على توظيف المال للاستثمار في قطاعات غير إستراتيجية و غير آمنة من الهزّات و التقلبات عند كّل منعرج حراري أو تقلّب في المناخات الاقتصادية و السياسية و الأمنية و العلاقات الدولية, وأقصد بذلك التركيز المفرط على القطاع السياحي. و بالمقابل إهمال العناية بالقطاع الفلاحي الذي كان بالإمكان تطويره بالقدر و الكيفية التي تسمح بتغطية حاجيات سوقنا الداخلية و حاجياتنا التصديرية للأسواق الخارجية و التحكم في ارتفاع الأسعار كما يسمج من حيث القدرة التشغيلية باستيعاب قدر كبير من العمّال و الكفاءات و الباعثين، لو كانت صدقت العزائم و شدّت الهمم ووضعت التصوّرات و السياسات البناءة موضع التنفيذ و سخرت لذلك الطاقات و الأموال الضرورية للإنجاز.
_ الارتهان للخارج واستيراد التكنولوجيا بدون خطة و بشكل غير عقلاني وفي ذلك ما فيه من هدر للأموال و ملازمة للتبعية و ضرب لفرص الإنتاج و البناء و تضييق فادح لأبواب التشغيل. إنّ سيطرة الآلة على الإنتاج و التعويل المطلق على هذه الآلة قد أعدم فرص العمل و المساهمة فيه لطالبي الشغل. كان لابدّ للعقل الواعي للدولة أن ينحاز للإنسان، أن ينتصر لحشود الأبرياء لأنّ الدولة غير معنية بالآلة الأجنبية بل معنية و مسؤولة عن الإنسان و الشعب.
إنّ سيطرة الآلة لا تستفيد منها إلا المصانع الغربية أو حفنة من الأثرياء ليس لهم من هم يشغلهم إلا تكديس الأموال في البنوك. فالوسطية الوسطية أيها الساسة، ليست الآلة إلا إضافة للجهد البشري فإذا تجاوزت حدود هذا الدور و زاحمت الإنسان في طعامه، أصبحت آلة شيطانية خبيثة يجب تحطيمها.
_ شيخوخة الرئيس المخلوع و تراجعه الصحي حقيقة ثابتة رغم المكابرة أسرعت بأفول نجمه و تقهقر دوره و صعود مواز لمراكز نفوذ جديدة تزاحم السلطة الرسمية مؤلفة من عائلة الرئيس الموسعة و عائلات الأصهار. هذا المحيط الذي طغى نفوذه على نفوذ المؤسسات الرسمية للدولة بل سخّر هذه الأخيرة لخدمة مصالحه و تحقيق رغباته و مضاعفة ثرواته. فتعرض المال العام و الخاص للنهب و السلب و الاغتصاب منقولات و عقارات و صفقات، و عمّ الفساد الإداري و غابت الشفافية واستشرت الوساطة و المحسوبية في شتى مناحي النشاط الاقتصادي الإعماري و التجاري و الصناعي، حيث فقدت عروض الأشغال العامة لإدارات التجهيز و الفلاحة و البعث العقاري كلّ مصداقيتها فتصدرت العمولات و الإكراميات السخية و الأسهم الخفية صورة تلك العلاقات ورحم الله المصلحة العامة التي بقيت ترددها الألسن و يكذبها واقع الحال. ومن صور الفساد المالي و البنكي تبني البنوك لعمليات تمويل مشروعات وهمية لا وجود لها و إعطاء قروض بدون موجب قانوني و الاحتفاظ بملفات قروض فاقدة لضمانات سداد الدين . كما لعبت المؤامرات دورا كبيرا في إغراق عديد المؤسسات و المشروعات وصولا إلى إجبار أصحابها على التخلي عنها بمقابل مجحف و غير قابل للتفاوض.
و من المظاهر المقيتة للفساد ما تردد من تورط إدارة الملكية العقارية في تنفيذ أوامر إنتزاع عقارات لفائدة المصلحة العامة بأثمان رمزية غير منصفة ثمّ التفويت في تلك العقارات مقابل قيمة الإنتزاع لفائدة أحد أعضاء الأسرة الحاكمة الموسعة.
كانت هذه محاولة للتعرف على الأسباب و العوامل التي قادت إلى خلق الوعي و الإرادة لدى هذا الجيل الغاضب، إرادة اكتسحت الطوق الأمني و كسرت حاجز الخوف و قطعت مع الخذلان و الانهزامية و الاستسلام و السلبية.
غصت الشوارع بأمواج الجماهير التي قررت منازلة آلة القمع بعيون كالجمر و صدور متحفزة مثل كاسحات الألغام و سواعد تحمل رايات الحرية و تلوح بشارات النصر و قبضات ملؤها العزم. لقد تراصت الصفوف و علت الهمم و توحدت الكلمة و الوجدان و ارتفع الصوت عاليا مدويا يملأ المكان الشعب يريد إسقاط النظام. فهانت الدماء على مذبح الحرية و الكرامة و الخلود و هانت الأرواح يبذلها المشتاقون إلى الحق و الإنعتاق فيسقط شهيد و يعلو نشيد و يسقط جريح و يعلو الصراخ .
لا شئ يكبح الطوفان . كلّ الحواجز و الأسوار تنهار تحت أقدام هذا الجيل الحرّ.
العزم العزم و الثبات الثبات أيها الشباب إنّ الموعد قد حان و الساعة أزفت لإنجاز الحلم.
نعم نعم لقد خر القصر و فرّ الدكتاتور. إنّه الخلاص و الإنعتاق ، إنّه لون جديد للحياة و طعم جديد ، إليكم بجائزة الحرية يا صنّاع هذا العصر. أنتم من حررتم أنفسكم و بأيديكم ندشّن المدينة الفاضلة إياكم أن تخافوا من المسؤولية فأنتم أهل لحمل الأمانة ياملئ الأسماع و العيون و القلوب.
أحبك ياشعبي
قيس عثمان
الإسم و اللقب : قيس عثمان
رئيس قسم أول بشركة
وذرف قابس


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.