لحظة غلق الكتاب بعد أن نفرغ منه كثيرا ما تبقى لحظة صعبة خاصة إذا تكوّنت ألفة بين القارئ والكتاب الذّي بين يديه ولا نخال أن أيّ كاتب يطمح إلى أكثر من ذلك في علاقته مع المتلقي. وفي هذا السياق يمكن القول أن الكاتب الطيب الطويلي قد نجح في كسب الرهان في أول تجربة له في كتابة الرواية (" نقمة المهمشين التي صدرت مؤخرا 2012). لسنا بصدد القول أن الرواية جيدة أو غير ذلك وإنّما نحن نسلّم للكاتب بأنه استطاع وهو في تجربته الأولى أن يأسر القارئ وليس بالضّرورة لقيمة العمل وإنّما لأنّه ومنذ أن تتجاوز ترددك قبل تصفّح الكتاب حتى يأخذك بين ثنايا متشعّبة ويوغل بك مسافات بعيدة حتى تجد صعوبة في العودة على أعقابك. تجد نفسك متلهّفا لمعرفة إلى أين يريد أن يقودك هذا الكاتب الذّي وإذا ما وضعنا جانبا فكرة أن والده هو الكاتب المعروف أحمد الطّويلي ولابدّ أنه يحمل في جيناته شيئا من فن الكتابة فإنه يبقى من المبتدئين في عالم الرواية ومع ذلك عندما تصل إلى الصفحة 348 من الرواية إلى نهايتها تجد صعوبة في مغادرة العالم الروائي لهذا الكاتب الذي استغل دون شك تخصصه في علم الإجتماع (حاصل على درجة الدكتوراه في علم الإجتماع من كلية العلوم الإنسانية والإجتماعية بتونس بأطروحة عنوانها التعليم العالي والتشغيل في تونس الواقع والآفاق) لتوظيفها في بناء أحداث الرّواية. بين الروائي والتوثيقي في البداية تجد نفسك في التسلل بسبب العنوان والصورة التي وشحت غلاف الكتاب. العنوان: نقمة المهمشين والصورة ممثلة للثورة الشعبية التونسية. تخال نفسك إزاء عمل توثيقي تأريخي للثورة وعلى أقصى تقدير جنس ابداعي يراوح بين التوثيق والسرد ولكنك تجد نفسك في حضرة عمل روائي وإن استمد من الثورة أحداثه فإنه يبقى شبيها بأساليب السرد الكلاسيكية. قصة لها بداية ونهاية تتخللها عقدة وتصاعد للأحداث ثم تنفرج الأمور شيئا فشيئا لننتهي بانتصار الثورة الشعبية.. تدور الأحداث حول العربي الشاب المتعلم الحاصل على الأستاذية في العربية لكنه يبقى عاطلا عن العمل. يتجاوز الثلاثين من عمره وتتهاوى مع كل اختبار في"الكاباس"(الذي يؤهل لمهنة الأستاذ) يفشل فيه أحلامه وثقته في البلد الذي لا يمنح أمثاله فرصة للحياة الكريمة ويخص مقابل ذلك الكسالى والفاشلين بأكثر من فرصة. يقف على حقيقة مرة تتمثل في أن حياته تمضي فارغة بلا قيمة وبأنه مهدد بأن يمر بجانب الحياة إذا استمر محافظا على المبادئ التي علمه إياها والده وهي مبادئ تقول بضرورة نبذ الرشوة والمحسوبية والتحيل وينتهي به الأمر إلى حل دموي. ينتهي به الأمر في أحضان الجريمة. يقتل العربي شيخا يعيش وحيدا ويحصل على ماله ويطمس معالم الجريمة. تنتهي الرواية دون أن نعرف هل أن العربي سيدفع ثمن جريمته أم لا وعلى الأحرى إذا ما اتّبعنا سياق الأحداث فإنه سيبقى بلا عقاب لأنه لا شيء يوحي بأن هناك من يبحث أو يهمه أن يعرف قاتل الرّجل الهرم. هكذا يصور الكاتب المجتمع التونسي فترة قليلة قبل انتصار الثورة الشعبية. قمة في اللامبالاة والأنانية حتى أن القاتل يمر في الزحام دون أن يتفطن إليه أحد. رجل كل المتناقضات يجول الكاتب في أعماق العربي ويصوّر كمّ التناقضات داخله. فهو الرجل المؤمن صاحب اللّحية والمتردّد الدائم على الجوامع الذي يصبح عربيدا في خمارة قذرة يعاشر المومسات ويعاقر الخمرة بمال الضحية التي أنهى أيّامها بيديه وأقنع نفسه بأنه لم يقم بذلك إلا لأنه يريد أن يعيش وأن يحيا في حين أنّ القتيل استوفى حقه في الحياة بعد أن تقدم به العمر وظل يعيش وحيدا حسب الفلسفة التي يستدعيها العربي كلّما شعر بتأنيب الضمير. العربي هو أيضا صديق هادية الفتاة المحجبة التي اظطرتها الغيرة في احدى المرات إلى نزع الخمار والخروج في لباس السافرات في كامل زينتها وأنوثتها الصارخة. العربي هو أيضا ذلك العاشق لشمس التي التقاها في الحانة القذرة وتحولت القصة إلى حب هادر. العربي هو ذلك الشاب الذي أقبل على الحياة بنهم الجياع. يحب هادية ويهيم بها ويحرص على أن يقاسم حبه بينها وبين صديقة الحانة. العربي هو ذلك الذي أسال الدم من أجل أن يعيش بعد أن منعته ظروفه الإجتماعية من العيش بسلام. هو الإنسان الذي تحول إلى كائن بوجهين. إنسان ينافق المجتمع الذي يأبى أن يقبل بغير المنافقين. لكن رغم إصرار الكاتب على تقديم كل التبريرات لبطل الرواية ورغم الزج به في عمل بطولي ليلة الرابع عشر من جانفي 2010 حيث صعد إلى سطح أحدى العمارات بتونس العاصمة غير بعيد عن الشقة القذرة التي اكتراها في عمارة قديمة بنهج ابن خلدون بتونس العاصمة ليمارس فيها حريته, صعد إلى أعلى العمارة لسحب علم تونس ويلتف به معرضا نفسه للخطر بعد أن تم فرض منع الجولان بالبلاد ورغم مشاركته باقتناع تام في مظاهرات 14 جانفي الشهيرة بالعاصمة ورغم أنه تفطن إلى أن خطاب بن علي ليلة 14 جانفي لن يؤخر ولن يقدم في الأحداث إلا أن هناك حاجزا يبقى قائما بينه وبين القارئ. الجدار المانع نشعر عبر الصفحات بالإمتعاض من العربي القاتل حتى وإن حاول الكاتب أن يجد في المجتمع الظالم والجاحد والحاكم المستبدّ مبرّرا لأفعاله. لا نستطيع أن نتعاطف كثيرا مع انحداره إلى القاع. لكن على الأرجح فإن الكاتب اتخذ من العربي الذي جمع كل المتناقضات في شخصه تعلة لفسح المجال أمام قلمه ليصور لنا بطريقة فنية وبأسلوب بارع عملية الإنحدار إلى القاع التي بلغها البطل وحالة اليأس التي بلغت بالتونسيين قبل الثورة. وقد يعتري القارئ أحيانا وهو يتجول في ثنايا النص وبين أنهجه وشوارعه الشعور بأن الكاتب يجد لذة في ممارسة حقه على بطله يصنع منه ما يشاء فهو عجينة طيعة ولينة يفعل بها مثلما كان يفعل بيغماليون بالمرأة التي ابتدعها من وحي خياله. فالعربي في آن واحد ذلك المسلم المداوم على صلواته وهو الكائن الذي نتوقع منه كل أنواع القذارة إلى درجة أنه لم يتردد في ارتكاب جريمة بل أبدع فيها وكأنه قاتل محترف. لم نر أن الكاتب كان يأبه كثيرا للصورة النهائية التي أخرج بها بطل الرواية بقدر ما كان يهمه أن يبدع نصا يثبت فيه أمام القارئ أنه وهو الذي يضع بين يديه روايته الأولى أنه متحكم في فنون الكتابة ومتمرس بها. لذلك فإننا إن أحببنا الأسلوب وسلمنا باللغة الجميلة والمنفتحة جدا على العصر والمتحررة من الموانع الأخلاقية ولكن دون ابتذال والقدرة على الوصف الدقيق فإننا نبقى نشعر بالضيق إزاء شخصيات الرواية. كل الشخصيات الأساسية وخاصة الثالوث العربي وشمس شهيدة الثورة وهادية. شخصيات كانت لا تملك قدرها تجد نفسها فجأة تعيش ملحمة الثورة والوطنية. ربما لهذا الأمر بالذات نشعر بالضيق تجاهها خاصة وأن كل تونسي رسم صورة أخرى لأبطال الثورة الشعبية.