الحدث هو عرض فيلم "مملكة النمل" للمخرج التونسي شوقي الماجري الأسبوع المنقضي بصفاقس، لكن الجديد هو ما شهده المسرح البلدي من كثافة إقبال ومن رونق الجلوس جنبا إلى جنب بين مختلف الشرائح العمرية والتيارات الفكرية ربّما لأنّ قضية فلسطين تعتبر جامعة لعدة أطياف وألوان سياسية واتجاهات فكرية وربّما هو فضاء نوادي السينما الذي يواصل منذ سنين طرح قضايا وهموم المجتمع عبر عرض الأفلام المشفوعة بالنقاش وهو دور لم تنفكّ نوادي السينما بالجهة عن القيام به والمنضوية صلب الجامعة التونسية لنوادي السينما. فيلم مملكة النمل الذي تعالت الأصوات في آخر مشهد من عرضه منادية "الشعب يريد تحرير فلسطين" أدار نقاشه نادي سينما الأرض بحضور المنتج نجيب عياد والممثلة صباح بوزويتة وبعض من حضر من الفريق العامل. "مملكة النمل" يعالج قضية رأى فيها مخرجون كثر أنّه لن يُفكّ حصارها إلاّ بحمل البندقية والكفاح المسلّح ألا وهي قضية فلسطين غير أنّ شوقي الماجري هذه المرة وإن لم يغفل عن مفهوم المقاومة وأنّ "قضية فلسطين أكبر من أن يختزلها فيلم" فقد عبّر عن تواصل هذه المقاومة من خلال فيلمه بترابط جيل الجد أبو نمل والجدة خضراء وجيل جليلة البنت ومن بعدهم سالم الذي اختار أن يُفلت يده من يد جده كي تروي دماؤه أرض فلسطين. هذا الترابط لجيل المقاومة تمثّل كذلك من خلال حركة الكاميرا التي لم تهدأ على امتداد الفيلم رغم ما تخلّل بعض المشاهد من بطء رأى فيها المتفرّج نوعا من الثقل أو الرتابة لتنزل عدسة الماجري بالمشاهد إلى عالم الأرض السفلي وما يحمله من جمال في ظل أنفاق ليست كالتي ألفناها بين غزة ومصر ولكنها الحلم الممتد لفكرة البقاء والفناء، لمفهوم الولادة والموت، لمعنى ان تهب المرأة الفلسطينية وليدها من سجون مغتصبي أرض فلسطين إلى أرض فلسطين ذاتها، فجليلة ولدت سالم على أرض فلسطين وسالم مات بها مفوّتا على والده فرحة ان يدفنه وأن يزفه مع الشهداء. هي الحياة إذن بكل ما تحمله من معاني المقاومة والصمود والبذل والتضحية في سبيل أن ينعم الطفل سالم وكل أبناء فلسطين بمتعة استكشاف أرضهم ليس عبر مسلك أرضي ولكن فوق الأرض. ولكن وبالرغم من المراوحة التي عشناها طيلة الشريط بين ثنائية الأعلى والأسفل تواصل مفهوم النضال ولعل أبو نمل الجد كان صوتا ورابطا بين أجيال المقاومة في تنقله بين جمالية المغارات التي تم فيه تصوير الفيلم بين سوريا وتونس بين أوذنة والهوارية وقصرهلال وهو ما يحسب للشريط الذي يمكن اعتباره وثيقة شاهدة ومعزّزة لمكانة تونس في المشهد السينمائي باعتبارها من إحدى العشر مواقع العالمية المميّزة في استقطاب المخرجين وكبارالمنتجين لتصوير أفلامهم. هذه المرة"مملكة النمل" تحوّلت إلى عالم شوقي الماجري لتضع مخرجنا التونسي بين خيار تصوير البندقية والتفجيرات وبين رموز الشجرة الهرمة والقمر والتفاحة والفراشة التي تنشد ان تبتعد وتحلّق فوق كل أرض فلسطين. رموز أسّست لمعنى أن يولد المقاوم على ارض اغتصبت لينزل بسلاسة وبكل أمل إلى عالم سفلي مفعم بالحب ولكن كذلك الموت ليولد من جديد شهيد آخر يعيش إلى جانب سالم وأرض فلسطين.