بقلم: رشيد تمر - لا شك أن ثورتنا قد غيرت وجه البلاد لكن ليس من الثابت أن تكون قد نجحت في تغييرعقلية العباد حيث إننا ما أن أصبحنا طلقاء بعد سنوات الكبت والتهميش، حتى مارس أغلبنا الحرية التي أهدتنا إياها الثورة بلا تحفظ ولا حدود، مما جعل العديد من المواطنين الذين صدموا من هول ما يعيشونه اليوم من انفلات على كل المستويات يتمنون لو أن الثورة لم تكن. فلماذا تأكل الثورة أصحابها بهذا الشكل؟ ولماذا يتضامن أفراد مجتمعنا كلما داهمهم الخطر من الخارج ويمزقون في المقابل أوصال بعضهم البعض كلما اختلفوا في طريقة التعايش؟ أهو الصراع الدائم بين الحق والباطل أم أن الحرية قد جاءتنا قبل الأوان ؟ إن بلادنا قد حفظها الله من الحرب الأهلية خلافا لما وقع في العديد من البلدان العربية مثل سوريا و لبنان و اليمن ، غير أن ما نعيشه اليوم قد يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه ما لم نقيّم عملنا و نحدّد مبتغاه . فالكل ينادي بإنجاح الثورة والكل يعمل على إجهاضها بقصد أوعن غير قصد فنواب الشعب يتناحرون على وقع التجاذبات السياسية. الأغلبية معتدة بنفوذها والمعارضة تعمل جاهدة و بكل الوسائل على أن تظهرها في مظهرالفاشلة والرافضة للتوافق و الحوار، لاعنة في نفس الوقت ما أفرزته من نتائج. والحكومة تعمل بصمت وبجهد لتوفيرالأمن وتحقيق التنمية عبر تسمية أكفاء يمكن أن تعول عليهم في المناصب الحساسة لتأمين خلفها من غدرالفرقاء حتى تتمكن من التحكم في دواليب الدولة وتطبيق ما تعتقد جازمة أنه صالح للبلاد و بلسم لدائها العضال لكنها لم توفق إلى حد الآن في إنجاز التحسن المأمول في وضعية البلاد ؛ فالمؤشرات الاقتصادية يتجه أغلبها نحوالانحدار كارتفاع مستوى الفقر و البطالة و العجز في الميزانية و الميزان التجاري و تدني مستوى الاحتياطي من العملة مما سينجر عنه حتما تفاقم المديونية وتدخل أجنبي في الاختيارات الوطنية . ولعل التركة التي ورثتها الحكومة و النقص الواضح في تجربتها والبط ء في أدائها وحدة العوامل الخارجية السلبية التي تتعرض لها من ركود في مستوى نمو اقتصاد بلدان السوق الأروبية بصفته أهم شريك لنا ، أضف إلي ذلك حجم المشاكل الاجتماعية المتزايدة التي تجابهها هذه الحكومة ، قد أربكت مسيرتها وعطلت نسق أعمالها ، فانهالت عليها الانتقادات من كل حدب وصوب حتى ممن وضعوا ثقتهم فيها فأصبحت في نظرالبعض هي المسؤولة الوحيدة عن كل من حرق نفسه في البر والبحر، مما سهل على معارضيها الإجهاض عليها بتضخيم زلاتها والصمت على إنجازاتها مستعينة في ذلك بعض الأبواق الإعلامية التي تخلت عن قواعدها المهنية. و القضاء يطالب بالاسقلالية و يتوجس ممن بداخله ومن بخارجه ، يمثله جهاز ذو رأسين متجاذبين ما يجمعهما قليل و ما يفرقهما كثير؛ بينما تري أغلب القضاة من الإمكانيات اللازمة فاقدين وللأمن متعطشين وبالملفات مكبلين حيث بلغ المعدل السنوي لكل مواطن 3 قضايا. و الإعلام بعد ما كان يميل ميلا مع الرياح العاتية إلا ما قل وندرأصبح عفيفا متعففا يغارعلي حياده و يتهم كل من نقده باغتصاب صاحبة الجلالة فيفزع أهلها من الداخل والخارج للقصاص. و مكونات المجتمع المدني بجميع أشكالها و ألوانها الفسيفسائية منه ما يبشر بكل خير بتوخيه منهج التضامن الاقتصادي و الاجتماعي و منه ما أنشئ لخدمة أغراض سياسية إيجابية كانت أو سلبية. أما الشعب فيطالب يوميا بالأمن والتشغيل وبالتخفيض في الأسعار وبمقاومة الفساد ومحاسبة أزلام النظام وبنظافة البلاد من الفضلات المنزلية والسكوت على المباني الفوضوية بحجة الوضعيات الاستثنائية ولا أحد ينقد نفسه في المقابل ويقيم أداءه ويتساءل عن دوره في إنجاح الثورة ومتطلباتها. لذا ترى مثلا أغلب الناس يضربون بقانون الطرقات عرض الحائط على مرأى ومسمع من القائمين على تطبيقه وإذا ما ضبط أحدهم بفعلته خيرارتكاب الإثم على دفع المخالفة، ثم خرج متظاهرا ولاعنا أداء الحكام لفشلهم في مقاومة الفساد والمفسدين. وترى من التجارمن يمتص دم أخيه بالغش والاحتكار في حين يستغيث الفلاح من تكلفة الإنتاج استغاثة المستهلك من الزيادة في الأسعار. وترى المتخصصين في تجارة الكلام يترددون زرافات ووحدانا على وسائل الإعلام لقلب الحقائق وهتك الأعراض بمشاركة بعض الأقلام التي باع أصحابها ذمتهم بأبخس الأثمان ، يدافعون عن شرف الرجل الحرالمرأة الرمز في كل مكان ويهتكونه بالليل والنهار. وترى كذلك المهربين وبائعي المحظور يرتعون بكل حرية ويتفننون في تخريب البلاد وإذا ما أوقفوا عن حدهم جعلوا هيبة الدولة تحت أرجلهم وداسوا على رموز السيادة و أحرار البلاد. وترى أهل المدن سكارى وما هم بسكارى بلذة التبذير وكثرة الاستهلاك حتى تخال أن الفقر قد ولى وتعتقد أن الكل قد بات شبعان بينما يتجرع أهل الريف ضنك العيش من الجوع والعطش. وترى العاطلين يسدّون منافذ الإنتاج ويعطلون التصدير ثم ينادون بالتشغيل حتى امتلأت بهم المقاهي وجفت منهم الحقول الفلاحية وحضائرالبناء. وترى المدافعين عن الطبقة الشغيلة يطالبون بالشغل ليشعلوا البيت نارا وكلما خمدت نارأضرموا أخرى حتى إذا أتت على الأخضرواليابس خرجوا على الناس بالحلول السخية لمحاولة إخمادها بصفة وقتية. وترى من كان يصنع الفساد ويتباهى به في ما مضى و يجمع شهائد الولاء متنكرا اليوم بلباس المناضلين الثوار يهاجم الأحرارويصنع الأبطال. وترى أصحاب اللحى المعفاة ينادون بتطبيق الشريعة والرجوع إلى تعاليم الدين وكأنهم حاملون للحقيقة المطلقة و لن تردوهم عن غلوهم و لو حرصتم والآخرين ينددون بهم ويعتبرونهم دعاة فتنة ومتعصبين فاقدين للحجة واليقين و في الأثناء تخرج جماعة الإبداع الثقافي و حرية التعبير لتدوس القيم والمقدسات ومعتقد الإنسان مستعينة في ذلك بالله و بالمدافعين عن حقوق الإنسان و تى أصحاب السيوف والعصي يخرجون من جحورهام ويفعلون في ذويهم ما يشاؤون ثم يذوبون في الطبيعة ولا يعرف من هم أحد غير أهمية المصالح الذاتية و قوة المال القذر. فريق يؤيد ويشد على الأيدي وفريق يكسر ويحرق ويتوعد. ألسنا إذن منخرطون كلنا في حراك لا يعدو إلا أن يكون حربا أهلية صامته مثلها مثل الداء الخبيث الذي يقتل خلايا المجتمع في الخفاء ما دام الكل ينادي بعشقه للبلاد ولا يقدم على مصلحته الذاتية مصلحة أحد ، كمن يثقب القارب لإغراق أخيه والحال أنه قابع فيه. هكذا تخاط لعبة الدمى المتحركة في بلادنا ، بطلها محنك ولبق وخيوطها بأيدي الطبقات السياسية طبق على طبق. أفبهذا السلوك يمكننا تضميد جراح الجرحى و مواساة أهالي الشهداء و توفيرغد أفضل لأبنائنا وتكريم الشرفاء ؟ أولم يئن للذين ظلموا أن يتوبوا إلى الله؟ أين نحن من نكران الذات والتمسك بالهوية و تجنب الاحتقان و التوقي من البلية والتجاوز عن السيئات و احترام القوانين والمؤسسات و بعضنا البعض في كل الحالات فإن دمنا و عرضنا ومالنا على بعضنا حرام. أين نحن من اعتبار أن العمل قيمة كونية به ننهض وبدونه نذل وأن علينا أن نستبطن القناعة في أنفسنا و ننبذ النهم فإن الجاه والمال لن يدوما وأن في أموالنا حق للسائل والحروم ؟ فمتى سيعود كل منا إلى رشده حتي نجتمع حول عناوين لا يختلف منا عليها أحد فنتفرغ بذلك إلى إنتاج ما ننفرد به و نفتخر به بين الأمم وإلا فإننا سنقع في المحظور و نصبح لا قدرالله أحياء من أصحاب القبور.